«من المستحيل تماماً للأثرياء الادخار بقدر ما كانوا يحاولون الادخار، والاحتفاظ بأى شىء يستحق الادخار».
هذا ما قاله رئيس البنك الاحتياطى الفيدرالى السابق، مارينر إكليس، فى شهادة أدلى بها أمام الكونجرس عام 1933.
عادة ما تتسبب الديون فى خلق هشاشة، وهو الأمر الذى يثير تساؤلاً مهماً وهو: «كيف يمكن للاقتصاد العالمى الهروب من الفخ؟».
وللإجابة على هذا التساؤل، ثمة حاجة إلى تحليل سبب اعتماد الاقتصاد العالمى اليوم على الديون، فذلك الأمر لم يحدث نتيجة النزوات العابرة لمحافظى البنوك المركزية، كما يفترض الكثيرون، بل إنه حدث نتيجة الرغبة المفرطة فى الادخار، مقارنة بفرص الاستثمار، مما أدى إلى قمع أسعار الفائدة الحقيقية وجعل الطلب شديد الاعتماد على الديون.
وذكر المحلل الاقتصادى مارتن وولف، فى مقال نشرته صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية، أن هناك بحثين حديثين يوضحان القوى التى تساهم فى دفع هذا الارتفاع فى الديون وعواقبها، الأولى تتعلق مباشرة بآراء «إكليس» وتدور حول «تخمة الادخار لدى الأثرياء وارتفاع ديون الأسر».
أما البحث الآخر فيدور حول «الطلب المثقل بالديون»، ويوضح كيفية تسبب تراكم الديون فى إضعاف الطلب وانخفاض أسعار الفائدة، وشارك فى تأليفه الأستاذ بجامعة برينستون عاطف ميان، والأستاذ بجامعة شيكاغو أمير صوفي، المعروفان بأعمالهما السابقة الجيدة فيما يخص الديون.
وكما قال إيكلس بوضوح، بعد مرحلة معينة تبدأ حالات عدم المساواة فى إضعاف الاقتصاد من خلال دفع صانعى السياسة إلى الاختيار المدمر بين ارتفاع معدلات البطالة أو الارتفاع المتواصل فى الديون.
وتتناول الورقة البحثية المعنية بتخمة الإدخار، نقطتين، أولهما تقول، إن ارتفاع التفاوت فى الولايات المتحدة تسبب فى زيادة كبيرة فى مدخرات أعلى %1 فى الفئات فى توزيع الدخل، ولكن هذه الزيادة لا يقابلها ارتفاع فى الاستثمار، بل انخفض معدل الاستثمار رغم انخفاض أسعار الفائدة الحقيقية.
وارتفاع فائض مدخرات الأثرياء يقابله إفراط فى الإنفاق أو الاستهلاك أعلى من الدخل لدى %90 من الفئات فى توزيع الدخل.
وربما أدت مدخرات الأثرياء إلى تسجيل فائض فى الحساب الجارى، كما حدث فى نهاية القرن الـ 19 بالمملكة المتحدة. لكن الأثرياء فى باقى أنحاء العالم كانوا يسعون إلى جمع الأصول الأمريكية، مما أدى إلى عجز مستمر فى الحساب الجارى للولايات المتحدة.
ولكن حدث استثناء عندما ساهمت فقاعة الإسكان قبل الأزمة المالية العالمية فى دفع الاستثمار الخاص، فقد كان المستخدمون الرئيسيون لفائض المدخرات الأجنبية والمحلية هم الأسر الأقل ثراء، والحكومة.
وثمة علاقة واضحة بين إدخار الأثرياء والإفراط فى الإنفاق من جانب الأشخاص الأقل ثراء، وبين تراكم الائتمان والديون.
فمنذ عام 1982، قابل الانخفاض فى صافى مديونية الأثرياء ارتفاعا فى مديونية %90 من الفئات الأدنى، وهذا هو السبب فى أن الأقوال، التى تفيد بأن أسعار الفائدة المنخفضة تؤذى الأقل ثراءً، مجرد أقوال عبثية.
وهذه الظاهرة التى تتمثل فى ارتفاع ديون الأسر وحالات التفاوت الاجتماعى ليست فريدة من نوعها بالنسبة للولايات المتحدة، بل إنها منتشرة على نطاق واسع.
لماذا يعتبر ارتفاع الديون أمراً مهماً؟
تدور أحد الإجابات، كما يجادل ديفيد ليفي، حول أن الاقتصاد أصبح مدفوعاً بشكل متزايد بالتمويل والهشاشة، مع تزايد الأعباء المفروضة على المقترضين.وثمة إجابة أخرى تدور حول فكرة «الطلب المثقل بالديون»، وهى قريبة من فكرة «ركود الميزانية العمومية» التى طرحها الخبير الاقتصادى اليابانى ريتشارد كو.
فمع ارتفاع مستوى الديون، أصبح الناس غير مستعدين بشكل أكثر من أى وقت مضى لاقتراض مبالغ أكبر، لذا يجب خفض أسعار الفائدة لتحقيق توازن بين العرض والطلب وتجنب الركود العميق.
وبهذه الطرق، انتهى الأمر إلى حيث كان العالم حتى قبل انتشار جائحة فيروس كورونا المميت، مع أسعار فائدة حقيقية عند الصفر، وهى آلية تقود إلى ما أسماه الاقتصادى لورنس سامرز بـ «الركود المطول».
ويجب التركيز على الولايات المتحدة أولا، لأنها المكان الذى يميل فيه العرض والطلب إلى تحقيق التوازن، ولكن توجد ظواهر مماثلة لارتفاع التفاوت وارتفاع المدخرات يمكن رؤيتها فى الاقتصادات الكبرى الأخرى، خصوصاً الصين وألمانيا، إذ اعتادت الصين تصدير فائض مدخراتها إلى الولايات المتحدة، لكنها تستهلك ذلك الفائض الآن فى استثمار مهدر داخل البلاد، كما دفعت ألمانيا الشركاء التجاريين إلى ارتفاع الديون فى منطقة اليورو وخارجها.
وبالتالى.. كيف يمكن الهرب من فخ الديون؟
إحدى الخطوات تتمثل فى تقليل الحافز لتمويل الأعمال التجارية بالديون، بدلاً من الأسهم، والطريقة الواضحة للقيام بذلك هى إزالة تفضيل الديون على الأسهم فى جميع أنظمة الضرائب تقريبا، كما يمكن أيضاً- كما جادل الأستاذان الجامعيان ميان والصوفى فى كتاب سابق- التحول من الدين إلى التمويل السهمى للإسكان.
بالإضافة إلى ذلك، توجد فرصة كبيرة الآن لاستبدال الإقراض الحكومى للشركات فى ظل أزمة «كوفيد19-»، بمشتريات الأسهم.
وفى الواقع، يمكن للحكومات طرح صناديق ثروة سيادية فورية بسعر زهيد للغاية، فى ظل أسعار الفائدة المنخفضة للغاية فى الوقت الراهن.
ولكن لا شىء من هذه الأمور يصلح الاعتماد عليه بشكل مستمر من أجل استقرار الاقتصاد الكلى على ارتفاع الديون، وبالتالى ثمة حلان واضحان، الأول هو استمرار الحكومات فى الاقتراض، ولكن قد يؤدى هذا الأمر إلى نوع من التخلف عن السداد على المدى الطويل، فالأثرياء- وهم الدائنون الرئيسيون للحكومة- ملزمون بتحمل الكثير من التكاليف بطريقة أو بأخرى.
أما الحل الآخر والبديل يتمثل فى تغيير توزيع الدخل، من أجل خلق طلب أكثر استدامة واستثمار أقوى دون ارتفاع ديون الأسر.
وأكد الاقتصادى وولف، أن الارتفاع المستمر فى ديون الأسر والحكومة لن يحقق استقرار الاقتصاد العالمى إلى الأبد، كما أنه لا ينبغى أن تظل فقاعات أسعار الأصول عنصر أساسى ضمن الاقتصاد، وبالتالى ثمة حاجة إلى اعتماد بدائل أكثر تطرفاً، ومن المؤكد، أن الأزمات تعتبر وقتاً رائعاً لتغيير المسار، لذا دعونا نبدأ الآن.