مدريد، 5 نوفمبر/تشرين ثان (إفي): نجحت الجاليات العربية في أمريكا اللاتينية في تثبيت أقدامها في القارة النائية عن مواطنها والانصهار في تلك المجتمعات الجديدة لتشغل مناصب هامة ومتنوعة ما بين زعماء سياسيين ومفكرين وعسكريين ومالكي مصارف وفنانين ورجال أعمال.
ويوضح كتاب "الجاليات العربية في أمريكا اللاتينية" من ترجمة المغربي عبد الواحد أكمير، استاذ التاريخ المعاصر وتأليف مجموعة من الكتاب، أن عرب أمريكا اللاتينية الذين هاجروا في موجات متعاقبة إلى الدول اللاتينية في الثلث الاول من القرن العشرين حافظوا على جزء من أصولهم العربية، إلا أن المهاجرين الأوائل اضطروا للقيام بما يشبه "انتحار ثقافي" لتسهيل اندماجهم في المجتمع الجديد.
وأوضح المترجم أن العرب الأوائل الذين كان يطلق عليهم على سبيل السخررية "الأتراك" لانتمائهم إلى الامبراطورية العثمانية، حاولوا تجنب تعرض أبنائهم لنفس الرفض الذي عانوا منه، مما دفعهم إلى منحهم أسماء إسبانية، وعدم الاهتمام بتعليمهم اللغة العربية، فضلا عن السماح بتحولهم إلى الديانة الكاثوليكية بإدخالهم إلى المدارس المسيحية.
غير أنه أشار إلى أن تغيير الديانة لم يشكل عائقا كبيرا آنذاك نظرا لأن غالبية المهاجرين في الموجات الأولى كانوا من المسيحيين المارونيين والأرثوذكس.
ويورد الكتاب شهادة الدبلوماسي والفيلسوف الأرجنتيني فيكتور مسوح الذي يؤكد أن ماضيه ليس تاريخ والديه أو أجداده وإنما المجتمع الذي ينتمي له ومرجعياته هي الشخصيات الأرجنتينية الخالدة مثل ألبردي واتشيباريا وسان مارتين، وهو ما يصفه كريم حصير، منسق برنامج "عربي أمريكي" بمؤسسة البيت العربي بمدريد بـ"التضحية البريئة بجزء من الهوية".
ويؤكد المترجم أن المسافات البعيدة والعوائق أمام الاتصالات مع الأسرة، أدت إلى نسيان اللغة وذوبان هوية الأجيال التالية.
إلا أن محاولات طمس الهوية والرجوع إلى المرجعيات من الأبطال وكبار المثقفين بأمريكا اللاتينية لم يمنع بقاء بعض الصلات الثقافية على قيد الحياة بفضل تناقل تاريخ الآباء شفهيا، وإقامة النوادي الاجتماعية حيث كان أبناء الجاليات العربية "يرددون فيها اشتياقهم إلى الموطن الأم، ويسمعون الموسيقى العربية ويستمتعون بأشهى مأكولات المطبخ العربي".
وقد تحولت تلك النوادي فيما بعد إلى أماكن رفيعة المستوى في انعكاس للنمو الاقتصادي الذي حققته الجاليات العربية واندماجها في أعلى طبقات المجتمع، كما يشير الكتاب إلى الصحف الناطقة بالعربية التي أسستها الصفوة المهاجرة وحركة "أدب المهجر" التي تحاكي أعمال جبران خليل جبران في الولايات المتحدة إلا أنها فقدت وضاع أثرها بمرور الزمن.
غير أن الكتاب يبرز بشكل خاص التحول الجذري الذي أجراه عرب أمريكا اللاتينية، وبالأخص "الباعة الجائلون" في المناخ الاقتصادي حاليا حيث كانوا أول من أدخلوا أنظمة الشراء بالتقسيط والحصول على القروض ويقول كريم حصير في الكتاب أن "الخريطة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية كانت ستختلف كثيرا اليوم لولا الوجود العربي".
وبفضل الذكاء والمهارات التجارية لعرب أمريكا اللاتينية، تمكنوا من تحقيق ثروات هائلة بعد القيام بقفزات كبيرة في مجالي الصناعة والمصارف ووصولهم إلى قيادات الصفوة العسكرية والطبقة السياسية الحاكمة، وليس ادل من ذلك سوى أسماء عبد الله بوكرم، رئيس الإكوادور السابق، وخوليو سيسار تورباي، رئيس كولومبيا السابق، وخورخي أنطونيو، المستشار الاقتصادي للرئيس الأرجنتيني السابق خوان بيرون.
ويبرز في الوقت الحالي كارلوس منعم، رئيس الأرجنتين السابق السوري الأصل، وكارلوس سليم الملياردير المكسيكي لبناني الأصل.
غير أن أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في نيويورك مثلت حدثا فاصلا بالنسبة للجاليات العربية في القارة اللاتينية، فقد جعلت المواطنين الأصليين ينتبهون إلى تنامي أعداد العرب فيما بينهم وينضمون إلى الموجة العالمية لتهميشهم.
وعاد التهميش العرقي الذي تعرض له المهاجرون العرب في أول القرن العشرين ليأخذ شكلا آخر يجمع بين رفض العرق والدين، والخلط بين "العربي المسلم" و"الإرهابي".
غير أن رد الفعل العربي كان مختلفا هذا المرة، فبدلا من محاولات إخفاء الاصل سعت الأجيال الجديدة من عرب أمريكا اللاتينية إلى التمسك بهويتها والسعي لتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام والافتخار بحضارة الأجداد. (إفي)