أعلنت وكالة التصنيف الائتماني ستاندرد آند بورز "اس آند بي" ليلة الجمعة خفض التصنيف الائتماني للدين السيادي الأمريكي، الذي كان قد احتفظ قبل هذا الخفض بأعلى درجة في سلم التصنيف (AAA). ويعتبر التصنيف الائتماني معيار على الجدارة الائتمانية للمقترض ويقيس مقدرته على تسديد ديونه. فكلما انخفض التصنيف كلما ارتفع احتمال تعثر المقترض عن التسديد. وقد جاء قرار "اس آند بي" بسبب خيبة الأمل من الاتفاق الأخير بشأن رفع سقف الدين للحكومة الأمريكية. ورغم أنه تم التوصل إلى الاتفاق قبل أن يتأثر سقف الدين، ما يعني أن الحكومة الأمريكية كانت قادرة على الوفاء بجميع التزاماتها، إلا أن وكالة "اس آند بي" تعتبر أن الاتفاق لم يعالج مشكلة الديون بصورة جذرية. كذلك أكدت الوكالة أن المناخ السياسي في أمريكا، وهو الذي شكّل العقبة الرئيسية أمام رفع سقف الدين، قد أدى إلى تعقيد التوقعات المستقبلية بشأن التوصل إلى صيغة لحل مشكلة الدين على المدى البعيد.
والسؤال الكبير الذي يطرح دائما هو: ما تأثير كل ذلك على الوضع المالي والاقتصاد السعودي على وجه التحديد؟ لقد امتلأت صحافتنا بالتحليلات والآراء، ونشر تقريرين بنكيين حتى الآن عن تأثير أزمة التخفيض الائتماني على اقتصاد المملكة. ولم يصدر تصريح لأي مسؤول سعودي عن هذه الأزمة وتأثيراتها المحتملة والخطوات التي قد تتخذها الحكومة السعودية تجاه ذلك، خصوصاً أن مشاورات تلفونية حدثت خلال عطلة نهاية الأسبوع الغربية لدول العشرين، ومنها المملكة حول هذه الأزمة الجديدة. ورغم كل ذلك يمكن القول إن اقتصاد المملكة الذي يعتمد على النفط وعلى ارتباط عملته بالدولار هو الآخر معرض لتبعات تلك الأزمة بدرجات متفاوتة عند مقارنته باقتصاديات العالم الأخرى. ويضاف إلى ذلك الاستثمارات السعودية الضخمة التي في معظمها مقومة بالدولار وفي سندات دين دولارية ستعاني من أية تبعات محتملة على ضعف الدولار والعائد المحتمل على سندات الدين الأمريكية الذي قد تتراجع نتيجة ارتفاع تكلفة الإقراض بالدولار جراء خفض التصنيف الائتماني وزيادة مخاطر تعثر الدين الأمريكي.
وحتى أترك الحكم للقارئ ليخرج هو أيضا برأي مستقل، فإن تقييم آثار أية أزمة عالمية على الاقتصاد السعودي يأتي من النظر تأثيراتها على التالي: أسعار النفط، تغير قيمة الدولار، أسعار الفائدة، ونمو الاقتصاد العالمي. فمن أول وهلة يلحظ القارئ أن كل تلك العوامل هي عوامل خارجية لا تستطيع المملكة التحكم فيها أو التأثير عليها، إلا أسعار النفط وبشكل محدود، خصوصا أثناء الركود الاقتصادي، حيث لا تستطيع المملكة أن تخلق طلبا عالميا على النفط. عدا ذلك فإن العوامل الأخرى خارجة عن قدرة السعودية في التأثير عليها وتجنب آثارها في الوقت الراهن والمستقبل المنظور أيضا.
وبداية بأسعار النفط، تنظر الحكومة السعودية إلى سعر بين 80 و90 دولارا للبرميل على أنه كاف لتمويل موازنتها (مع العلم أن هذه النظرة تأتي قبل تبني الحكومة برامج ضخمة في تمويل الإسكان ومعالجة البطالة، ورفع المستوى المعيشي). فإذا ما انخفضت أسعار النفط عن ذلك، فإنها ستواجهه مصاعب تمويلية قد تضطر فيها إلى سحب احتياطياتها الأجنبية لتمويل العجوزات. ويبدو أن هذا السيناريو محتمل في المدى المتوسط، سنتين إلى ثلاث، وليس القصير. ولذلك علينا مراقبة أسعار النفط وتحركاتها في الأسابيع القليلة المقبلة.
وبالنسبة للدولار، فإن مخاطر خفض التصنيف الائتماني قد يرفع تكلفة الإقراض على الولايات المتحدة، مما يضطرها إلى طبع مزيد من الدولارات، وبالتالي المساهمة في إضعاف الدولار في المدى المتوسط والطويل. وما يحدث من تماسك للدولار هذه الأيام هو في رغبة بعض الدول الأخرى لإضعاف عملاتها أمام الدولار كما هو حاصل في الفرنك السويسري والين الياباني؛ ولذلك لم يكن مستغربا أن يتبنى الاحتياطي الفيدرالي أسعار فائدة منخفضة للغاية متعهدا ببقائها كذلك لسنتين قادمتين لخفض تكاليف الاقتراض. ناهيك عن مخاوفه لمستقبل النمو الاقتصادي الذي يخشى من عودته إلى ركود، مما يتطلب أيضا مراقبة مؤشرات الاقتصاد الأمريكي القادمة بشكل قريب وحذر.
ما سبق يجرنا إلى متابعة النمو الاقتصادي ومؤشراته في الولايات المتحدة في المدى القصير والمتوسط لأهمية ذلك في عودة الثقة للاقتصاد الأمريكي. ويجب ألا نغفل عما يحدث في أوروبا ومن احتمال تعثر إيطاليا وإسبانيا مع عودة أرقام النمو الضعيفة على اقتصادياتها. حيث طغى خبر تصنيف أمريكا على أزمة اقتصادية قوية قد تصيب الاقتصاد الأوروبي. فلو لم تكن أزمة التصنيف قائمة، لكانت أنظار العالم متجهة إلى الاقتصاديات الأوروبية التي بدأت تعاني من احتمالية التعثر، وتراجع مؤشرات النمو كما هو الحال في الاقتصاد البريطاني، واحتمال انتشار القلاقل الاجتماعية التي قد تصل دول أوروبية أخرى في حال تفاقم الأوضاع الاقتصادية.
في ظل كل تلك الأحداث، لم يعد أمام صانع القرار في المملكة الكثير لعملة لمواجهة تلك الأزمات. فرفع قيمة الريال الذي طالبنا فيه قبل حدوث أزمات بهذا الحجم يبدو صعب التحقيق في هذا الوقت الذي يتسم بالغموض الشديد حول الدولار وحول مستقبل الاقتصاد الأمريكي. كما أن تنويع الاستثمارات المالية، أو اتخاذ قرارات متسرعة حيالها الآن، أمر بالغ التعقيد نظرا للغموض الذي يكتنف الاقتصاد العالمي برمته. والمطلوب الآن هو العمل على تبني استراتيجية وطنية لإدارات الاستثمارات المالية وغير المالية بصورة أفضل، مع التفكير الجدي في دراسة أفضل السبل لإعادة تقييم الريال السعودي، خصوصا أن الجهاز الاقتصادي السعودي يمتلك القدرة والإمكانيات الكبيرة لتحقيق ذلك.