احصل على بيانات بريميوم: خصم يصل إلى 50% على InvestingProاحصل على الخصم

تظاهرات بيروت توقظ التناقضات حيال هوية مدينة

تم النشر 13/10/2015, 17:05
© Reuters. تظاهرات بيروت توقظ التناقضات حيال هوية مدينة
XAU/USD
-
GC
-
4220
-

من داليا نعمة

بيروت (رويترز) - التظاهرات التي تتخذ من وسط بيروت مسرحاً لها أيقظت- ربما عن غير قصد منظميها- تناقضات حيال هوية مدينة دمرت الحرب الأهلية سوقها الذي كان يجمع مكوناتها وابتلعت إعادة الإعمار صورتها التاريخية، فصارت لمن عرفها مدينة لا يعرفها وسوقا مصطنعا لا يمثل هويتها.

تدفقت الاحتجاجات الى ساحات وشوارع وسط بيروت التجاري قبل أسابيع رافعة شعارات بدأت من مطالب بديهية كرفع القمامة من المناطق وتوفير الكهرباء والمياه لتتجاوزها إلى قضايا تقع في صلب بناء الدولة ونهضتها كمكافحة الفساد واستقالة الحكومة الحالية غير المنتجة ومجلس نيابي فاعل وقانون انتخابي عادل وصولا إلى انتخاب رئيس للبلاد يملأ المنصب الذي شغر مع نهاية عهد ميشال سليمان في 25 مايو أيار 2014. 

وسط المحتجين ظهر أفراد طالبوا بما اعتبروه حقوقا مسلوبة منهم في وسط بيروت التجاري وذكّروا امام كاميرات الإعلام بما كان عليه عندما كان يسمى قبل الحرب الأهلية "بالبلد"  او "الأسواق".

في حين طرحت الكتابات على الجدران وأعمال الشغب والتخريب المتعمد أحيانا في ما بات يعرف اليوم بالوسط التجاري أو "داون تاون" أسئلة عما تعنيه هذه المنطقة لسكان العاصمة وضواحيها واللبنانيين عموما؟ فلو كانت هذه المنطقة تمثلهم وتشكل بالنسبة لهم واجهة للمدينة هل كانوا سيتعاملون معها بهذا المنطق؟ 

تلاقت هذه التناقضات والأجيال كل لغايتها في وسط العاصمة الذي شكل مرآة انعكست عليه كل الحقب والأزمات التي عصفت بلبنان. فكان أول المناطق التي شملها الدمار والنهب خلال العامين الأوّلين من الحرب الأهلية أو ما يعرف "بحرب السنتين" عامي 1975 و1976 واجتاحته معارك عنيفة بين الجماعات المسلحة المتناحرة سعيا للسيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية.

وشهد كما باقي البلاد خلال سنوات الحرب حتى عام 1990 تهجيرا لسكانه وتجاره وباعته ودمارا شبه كامل لأسواقه التراثية المزدهرة ففقد معها ما كان يميزه من تعايش بين الطوائف ومزيج فريد بين الطبقات والامزجة التي كانت كلها تجتمع فيه وتجد في دكاكينه وازقته رزقها ومرادها.

بعد انتهاء الحرب منحت حقوق إعادة إعمار (SE:4220) منطقة الوسط التجاري لشركة استثمارية ضخمة حملت اسم "سوليدير" تملّكت عقارات المنطقة واعطت اصحابها الأصليين تعويضات مادية أو أسهما فيها بدلا عن أملاكهم. ومنهم من رضي بالتعويضات وآخرين بالأسهم وفئة ثالثة رفضت الخيارين وحملت قضيتها إلى المحاكم وأسست جمعية أطلقوا عليها "أصحاب الحقوق في وسط بيروت التجاري" وما زالوا حتى اليوم يطالبون باسترجاع ممتلكاتهم.

أسواق بيروت القديمة المكتظة بروادها لمن لا يعرفها اليوم عديدة وكان فيها وفق ما ذكرت ريا الداعوق رئيسة جمعية أصحاب الحقوق في وسط بيروت نحو 300 ألف من أصحاب المصالح وقرابة 15  ألف مؤسسة تجارية. 

هذه الأسواق التي تدل أسماؤها على سلعها كان يباع فيها كل ما قد يخطر على البال مثل سوق الحرير وسوق الجوخ وسوق الخرّاطين (خراطة المعادن) وسوق القزاز(الزجاج) وسوق القطن وسوق الصرامي (الأحذية) وسوق الخضار وسوق القطايف وسوق النرابيج (خراطيم المياه). 

كان في الوسط أيضا أسواق للسلع اليومية كسوق اللحامين وسوق الخمامير وسوق العقادين وسوق النجارين وغيرها.

هذه الأسواق تعرضت للتدمير كليا أو جزئيا خلال الحرب الأهلية وما تبقى أعيد تصميمه على طراز حديث أوروبي يواكب متطلبات الحداثة.

ولو لم يخضع لاعادة إعمار شاملة لبقي كما يقول بسام النونو (42 عاما) وهو صحفي من عائلة بيروتية "كما العديد من مناطق بيروت بعد الحرب بعضها مهجور والآخر لا يزال يحمل آثار المعارك إما لعدم قدرة أصحابه على تحمل تكلفة الترميم أو لوفاتهم وتشتت تركاتهم أو بسبب الهجرة والبعض الآخر ربما كان رُمّم كما اتفق وفق أهواء ملّاكه وفي كل الاحوال ما كان ليعود أبدا إلى سابق عهده بسبب التغير الديمغرافي الذي طال العاصمة وسكانها خلال وبعد الحرب."

لكن قلب بيروت بأبنيته الانيقة ومقاهيه ومطاعمه الفخمة بات بالنسبة لريا الداعوق "ميتا وبلا روح" و "متنزها ترفيهيا" لطبقة الميسورين والسياح الباذخين بعد أن كان "نافذة لبنان والشرق الأوسط" وفق تعبيرها.

وتضيف الداعوق "لم يعد يمثل كل أصحاب المصالح والمنتجات اللبنانية بل أصبح مكانا مخصصا للمنتجات المستوردة والماركات العالمية الفخمة التي يمكن أن يجدها المرء في كل مدينة في العالم.. كانت الأسواق في الماضي يباع فيها كل شيء وكان يقصدها ويعتاش منها كل الطبقات التي تمثل فعلا النسيج الاجتماعي اللبناني."

هذه النسخة القديمة لوسط بيروت التي لا يعرفها جيل الشباب كانت "تؤمن جوارا طبقيا فريدا من نوعه إذ كانت تحتضن أسواق الطبقة الوسطى أساسا والطبقتين الميسورة والرقيقة الحال على جانبيها" كما يصفها محمد الستيني ابن العائلة البيروتية العريقة الذي لم يشأ ذكر اسمه كاملا. 

ويضيف "كنت تستطيع أن تشتري كعكة كنافة عند حلويات الجبوري بخمسة وثلاثين قرشا ويستطيع الأكثر اقتدارا شراءها من حلويات البحصلي بخمسين قرشا والثري بخمس وسبعين من حلويات الصمدي وجميع محلات الحلويات هذه كانت موجودة في الأسواق في دائرة قطرها 500 متر فقط بين ساحة رياض الصلح وساحة الشهداء.

"كان سوق اللعازارية لمتوسطي الداخل وعلى بعد 200 متر كان سوق سرسق للفقراء وبجواره خان البيض الذي كان يبيع الدواجن والطيور وبجوارهما أسواق الخضار واللحامين والسمك وبركة العنتبلي التي كانت تلم الجميع حولها لشرب المرطبات وإلى جانب كل هذا سوق الصاغة أو سوق الذهب وسوق الطويلة وسوق الفرنج للأغنياء". 

ويتساءل محمد "اين هذا التجاور الطبقي اليوم؟ وكيف ألغيت هذه الهوية الفريدة لقلب مدينة طاعنة في التاريخ ليقتصر دوره اليوم على وظيفة الترفيه للميسورين؟ لقد تغيرت هوية العاصمة وما حصل في الأسواق هو تشويه للتاريخ."

هذا الموقف من وسط بيروت الحالي يتفق معه شباب تفصلهم عن جيل ما قبل الحرب هوة عمرية واسعة تقرب من ثلاثين عاما وتقتصر ذكرياتهم عنه على مشاهد الدمار الذي غيّر معالمه.  

ويعتبر نادر فوز (31 عاما) الذي يقول انه شارك بحماس في جميع تظاهرات المجتمع المدني أن وسط بيروت اليوم هو "واجهة منقحة ومخملية لا مكانا لكل الناس أو سوقا يمكن أن يستقطب جميع الطبقات. ما أذكره عن افتتاحه بعد إعادة إعماره هو أنه كان منطقة سياحية بامتياز.. وأسعارها كذلك. رواده من السياح أو من طبقة معينة من الناس". ويضيف "خلال دراستي المدرسية والجامعية لم أتمكن من ارتيادها لعدم قدرتي على تحمل كلفتها ولم نكن ندخل إليها حتى."

ويتابع "بعد أن دخلت ميدان العمل وبات لي دخل شهري بقيت هذه المنطقة لا تعني لي شيئا وباتت مناطق أخرى مثل الحمرا تعني لي أكثر لأنها ذات نسيج اجتماعي متنوع وفيها كل شيء وهي مكان يقدر كل الناس على ارتياده ويضم أسواقا وماركات في متناول الجميع من الأرخص إلى الأغلى ثمنا". ويخلص إلى القول بنبرة جازمة "وسط العاصمة بدلا من أن يكون ملتقى فعلي لكل فئات المجتمع بات ينحصر بنسيج مخملي. هذه المنطقة قطعا لا تعنيني بشيء."

غير هذا الموقف من وسط بيروت الفخم والعصري لا يلاقي قبولا من ألين خوري (23 عاما) التي كانت ترتشف القهوة مع صديقتيها في مقهى يحمل اسم سلسلة مقاه عالمية بالقرب من دار السينما في أسواق بيروت وهو مجمع تجاري فخم بني على انقاض جزء من الأسواق القديمة وإن استبقى أسماءها مثل سوق الطويلة وسوق أياس.

وتقول ألين "هذه هي "داون تاون" التي أعرفها وأحبها. أداوم باستمرار على المجيء إلى هنا مع أصدقائي للتسوق في المتاجر الكثيرة والجميلة المجتمعة في هذا المكان ثم تناول الطعام أو القهوة في أحد المطاعم أو المقاهي. الاسعار مقبولة بالنسبة لي والمتاجر ذات مستويات متنوعة". وتؤكد "في كل مدن العالم هناك مناطق سياحية فخمة وأخرى شعبية ويسعدني أن أجد هنا في بيروت الماركات الفخمة العالمية عينها كما في أهم مدن العالم."

لكن على بعد أمتار قليلة من المقهى الذي كانت تجلس فيه ألين وفي حي خندق الغميق الشعبي الذي لا يفصله عن وسط بيروت إلا شارع. وشارك الكثير من شبانه في الاحتجاجات وأوقف البعض منهم لمشاركتهم في أعمال الشغب تقول ردانة فواز (18 عاما) التي تعمل في شركة أدوية إن "دي تي (اختصار داون تاون) مكان جميل وفيه مبان قديمة.. لكنهم جمّلوا المنطقة إلى حد أنها باتت باهظة ولا نقدر على شراء شيء من المتاجر هناك. كل ما نفعله هو التنزه والفرجة على الواجهات الجميلة لكننا لا نقدر ماديا على التسوق أو حتى الجلوس على المقاهي لأنها أيضا باهظة الثمن".

وتستطرد بابتسامة عريضة "لكنها منطقة جميلة جدا. جميل أن ننزل الى هناك كل يوم لكن الطبقة "السوبر هاي" (المترفة) هي التي تقدر فقط على الاستمتاع بها .. لكنها جميلة.. ليتها فقط كانت طبيعية حيث يمكن لنا أن نتسوق ونجلس في اي مقهى من المقاهي الجميلة دون أن نقلق من الأسعار."

أما إبراهيم (20 عاما) الذي يسكن الحي نفسه فيجيب عن ما يمثله له وسط بيروت بكلمتين مقتضبتين لكنهما تعنيان الكثير "لا شيء."

وسط كل هذه التناقضات يتراءى وسط بيروت التجاري أو "داون تاون" أو ربما "الأسواق" ككيان حائر في هويته أفقدته الحرب ذاكرته وبات كأبنيته القديمة قيد الترميم وقد مزّق المتظاهرون جزءا من ذلك القماش الأخضر الرقيق الذي يغطيها ليظهر قدرا من جمال بائد وقدرا من حداثة طارئة لكنه أيضا يكشف الكثير من العيوب والتشوهات التي تحاول بيروت  نفسها أن تستوعبها وتمزجها لكنها تأبى إلا أن تطفو بين أزمة وأخرى.  

© Reuters. تظاهرات بيروت توقظ التناقضات حيال هوية مدينة

أحدث التعليقات

قم بتثبيت تطبيقاتنا
تحذير المخاطر: ينطوي التداول في الأدوات المالية و/ أو العملات الرقمية على مخاطر عالية بما في ذلك مخاطر فقدان بعض أو كل مبلغ الاستثمار الخاص بك، وقد لا يكون مناسبًا لجميع المستثمرين. فأسعار العملات الرقمية متقلبة للغاية وقد تتأثر بعوامل خارجية مثل الأحداث المالية أو السياسية. كما يرفع التداول على الهامش من المخاطر المالية.
قبل اتخاذ قرار بالتداول في الأدوات المالية أو العملات الرقمية، يجب أن تكون على دراية كاملة بالمخاطر والتكاليف المرتبطة بتداول الأسواق المالية، والنظر بعناية في أهدافك الاستثمارية، مستوى الخبرة، الرغبة في المخاطرة وطلب المشورة المهنية عند الحاجة.
Fusion Media تود تذكيرك بأن البيانات الواردة في هذا الموقع ليست بالضرورة دقيقة أو في الوقت الفعلي. لا يتم توفير البيانات والأسعار على الموقع بالضرورة من قبل أي سوق أو بورصة، ولكن قد يتم توفيرها من قبل صانعي السوق، وبالتالي قد لا تكون الأسعار دقيقة وقد تختلف عن السعر الفعلي في أي سوق معين، مما يعني أن الأسعار متغيرة باستمرار وليست مناسبة لأغراض التداول. لن تتحمل Fusion Media وأي مزود للبيانات الواردة في هذا الموقع مسؤولية أي خسارة أو ضرر نتيجة لتداولك، أو اعتمادك على المعلومات الواردة في هذا الموقع.
يحظر استخدام، تخزين، إعادة إنتاج، عرض، تعديل، نقل أو توزيع البيانات الموجودة في هذا الموقع دون إذن كتابي صريح مسبق من Fusion Media و/ أو مزود البيانات. جميع حقوق الملكية الفكرية محفوظة من قبل مقدمي الخدمات و/ أو تبادل تقديم البيانات الواردة في هذا الموقع.
قد يتم تعويض Fusion Media عن طريق المعلنين الذين يظهرون على الموقع الإلكتروني، بناءً على تفاعلك مع الإعلانات أو المعلنين.
تعتبر النسخة الإنجليزية من هذه الاتفاقية هي النسخة المُعتمدَة والتي سيتم الرجوع إليها في حالة وجود أي تعارض بين النسخة الإنجليزية والنسخة العربية.
© 2007-2024 - كل الحقوق محفوظة لشركة Fusion Media Ltd.