من دون شك أن الانخفاضات الأخيرة التي تعرضت لها المعادن الثمينة بقيادة الذهب في عام 2018 ألقت بظلالها على الأسواق وذلك في ظل تعالِ الأصوات حول ارتفاع شهية المخاطرة في الأسواق و هيمنة الدولار مع التزام الفيدرالي الأمريكي برفع الفائدة التدريجي على الدولار، مما شكل عوامل ضغط إضافيه على المعادن الثمينة، بالإضافة لدخول العملات الرقمية إلى واجهة البدائل المتاحة و تردد جملة (لم يعد الذهب ملاذاً آمناً)، هل بالفعل نحن أمام سيناريو فقدان الذهب لبريقه كملاذ آمن و أنه لم يعد من الأصول المجدية من حيث الجدوى الاستثمارية؟
حتى نجيب عن هذا السؤال يجب أن نحلل طبيعة المعادن الثمينة من الناحية الاستثمارية و العودة بمراجعة تاريخية لأداءها على المدى القريب و المتوسط و البعيد.
نتفق جميعاً على أن المعادن الثمينة ليست من الأصول المولدة للنقد، بمعنى آخر أنه لا يوجد عوائد موزعة من حيازتها كما هو الحال في الأسهم (الأرباح الموزعة) و السندات (الفائدة)، و إنما العوائد الوحيدة التي تتحقق هي من الفروقات المتحققة بين سعري الشراء و البيع، و لكن هذه النقطة يندرج تحتها عدة اعتبارات تتعلق بطبيعة المستثمر و حجم المخاطرة الذي يعتمده، فالأسهم تعد من الأدوات المالية عالية المخاطر و التي ترتبط ارتباط مباشر بقدرة الشركة على تحقيق الأرباح من خلال ممارسة نشاطها الأساسي الذي وجدت من أجله و قدرة الشركة على الاستمرار و النمو و تحقيق التواجد الدائم في ساحة الأعمال، و كل هذه المعطيات محكومة بعوامل مخاطرة متنوعة يمنح صفة الأداة المالية عالية المخاطر للسهم، بمعنى آخر وجود السهم مشروط باستمرارية الشركة الأم و يزول بزوالها، كما يرتفع سعره وربحه بتطور أدائها و العكس صحيح.
أما السندات، و حتى لا ندخل في الكثير من التشعبات و التفصيل في أنواعها سنقوم بتصنيفها حسب الجهة المصدرة للسند و حجم المخاطر و العوائد:
- سندات حكومية/سيادية بتصنيف إئتماني مرتفع التقييم:
و عادة ما يتم تصنيف هذه السندات على أساس أنها سندات معدومة المخاطر أو منخفضة المخاطر بما يضمن للمستثمر عودة رأسماله في نهاية فترة الاستحقاق و لكن في المقابل تعتبر العوائد على هذه السندات منخفضة بشكل واضح (مثال السندات الألمانية و التي تعتبر من الاعلى من حيث التصنيف الإئتماني و الاقل من حيث المخاطرة و العوائد حيث تكون العوائد بنسب تقل عن %1).
- سندات حكومية/سيادية بتصنيف إئتماني منخفض:
عكس الحالة السابقة فهذه السندات تتمتع بتصنيف إئتماني رديء قد يصل إلى مرحلة الشك بقدرة الدولة أو الحكومة المصدرة للسند على سداد الفوائد و القيمة الإسمية عند انتهاء فترة الاستحقاق و لكن و بسبب ارتفاع المخاطر الإئتمانية لهذا النوع فإن العوائد على هذه السندات تصل لنسب مرتفعة تصل إلى 50% (مثال فنزويلا, الأرجنتين......إلخ).
- سندات شركات بتصنيف إئتماني مرتفع: (مخاطر منخفضة و بالتالي عوائد منخفضة).
- سندات شركات بتصنيف ائتماني منخفض: (مخاطر عالية و بالتالي عوائد عالية).
العملات الرقمية:
تحدثت كثيراً عن هذا الموضوع و لدي قناعة تامة بعبقرية الفكرة؛ و لكن لا أراها ترتقي حاليا لمستوى الأدوات الاستثمارية القادرة على انتزاع الكرسي من تحت المعادن الثمينة أو الأدوات المالية الأخرى، وذلك لعدة أسباب ذكرتها في مقال سابق تحت عنوان (محرقة البيتكوين أم عبقرية البلوكتشين!) ولعل أهم سبب هو غياب التشريعات و القوانين الصادرة من الجهات التنظيمية التي تمتلك صفة سيادية (بنوك مركزية و حكومات)، و لا يخفى على أحد حجم المخاطر الذي تحمله العملات الرقمية المتداولة حاليا وطبيعه هذه المخاطر التي تختلف بشكل كبير عن باقي الأدوات المالية و العملات التقليدية بالإضافة إلى حجم التذبذب الكبير في كل لحظة و الذي يفوق بأضعاف كبيرة جميع معدلات التذبذب للأدوات المالية السائدة.
المعادن الثمينة:
الذهب كان و لايزال عرضة للتحليل الرخيص و التافه من قبل أغلبية محللي المقاهي، الإعلام المرئي و المقروء، السوشيال ميديا الذي خلق كالعادة جيش من الببغاوات التي تتلقى المعلومة و ترددها دون إمكانية الربط و التحليل و الاستنتاج للعوامل التي ساهمت في الوصول الى الأرقام، بالإضافة إلى النتائج التي ستترتب عليها، كل هؤلاء يتحدثون كالعادة و في كل مرة عن حتمية انخفاض المعادن الثمينة بشكل عام و الذهب بصورة خاصة إلى مستويات قياسية بعد موجة الهبوط التي تعرض لها في عام 2018 لتصل الى حوالي 14% لغاية بداية الربع الرابع من العام، و الحقيقة أن معظم هذه التحليلات لا تعدو كونها توصيف للتحركات السعرية لا أكثر و لا أقل، و هي بعيدة كل البعد عن إضفاء الموضوعية على تحليل و استشراف التحركات السعرية على المدى القريب و المتوسط و البعيد و العوامل المسببة لها و حجم المخاطر التي تحملها هذه العوامل.
لنعد إلى التاريخ و لنقسم التحليل إلى قريب، متوسط، وبعيد المدى:
إن أقرب موجة هبوط سبقت موجة 2018 كانت في عام 2015، و يتذكر الجميع و لكن الأغلبية تتناسى أن الذهب في تلك الفترة هبط مع بداية عام 2015 من مستويات 1307 دولار للأونصة و استمر الهبوط لغاية بداية ديسمبر من نفس العام ليصل الى قاع 1045 دولار للأونصة، نفس الأصوات التي نسمعها حاليا في عام 2018 سمعناها من قبل في عام 2015 و التي نادت بسقوط الذهب كملاذ آمن و عدم قدرته على الصمود و كالعادة التحليل كان مجرد توصيف للتحركات السعرية اليومية لا أكثر و لا أقل مع حالة تهويل غير مبررة على الاطلاق، الذي حصل أن الذهب انطلق من قاع 1045 و استمر في الانطلاق حتى وصل في نهاية الربع الثاني من عام 2016 الى مستويات 1375 دولار للأونصة أي بنسبة ارتفاع حوالي 32% خلال 7 أشهر.
الغريب أن البعض يستشهد بهبوط الذهب من قمة 2011 عندما وصل الى سعر 1925 دولار للأونصة متناسين تماماُ أسباب هذا الهبوط و التي كانت واضحة لكل المتابعين في ذلك الوقت، و هي ببساطة توقف برنامج التيسير الكمي الأمريكي الذي انطلق في عام 2009 عقب الازمة المالية العالمية و التي على أساسها خفض الفدرالي الأمريكي أسعار الفائدة على الدولار الأمريكي و دخل في برنامج تحفيز اقتصادي من خلال التيسير الكمي، و النقطة الأهم هي تغافل هؤلاء عن نقطة هامة و هي أن الذهب في 2007 كان عند مستويات 600 دولار للأونصة و انطلق بفعل الأزمة و بفعل قرارات الفيدرالي بتخفيض الفائدة و بتحفيز الاقتصاد كميِاً إلى مستويات 1925 دولار....بالتالي من البديهي جداً للمتداول الذي توقع حدوث الأزمة أن يخطو باتجاه توسيع مراكزه الشرائية على المدى القصير و المتوسط و الطويل في وقت كانت فيه حالة غليان اقتصادي عالمية رافقها ارتفاع مبالغ فيه في قيمة معظم أشكال الأصول الاستثمارية (أسهم، عقارات، مشتقات....إلخ)، مترافقة مع تقييمات إئتمانية عالية من الشركات المتخصصة بات معها من الصعب أن يصدق السوق إحتمالية حدوث الأزمة، و من البديهي أيضاً لنفس المتداول أن يعي تماماً أن الوقت حان للبيع عند قمة 2009 و أن التداول على الموجات اليومية و القصيرة الأجل أصبح الاستراتيجية الأمثل حتى تتراجع وتيرة رفع الفائدة على الدولار الأمريكي و يتوقف الاقتصاد عن التفاعل معها ويبدأ بتحقيق حالة من السير الأفقي المتبوع بالتراجع لأسباب تتعلق بعدم وصول التضخم إلى المستويات التحفيزية المطلوبة.
أنا لا أؤمن بنظرية انهيار الاقتصاد الأمريكي و أعتبر أن الحديث في هذا الشأن مضيعة للوقت و قد سبق و ذكرت ذلك في مقالي (الاقتصاد الأمريكي و وهم الإنهيار!)، فالأزمات هي جزء لا يتجزأ من الدورة الاقتصادية، و لم يكن الكساد العظيم عام 1929 أولها و لن تكون أزمة 2008 آخرها و هذا أمر يجب التعايش معه و التركيز على الاستفادة من كل مراحل الدورة الاقتصادية، و لكن تحليلي يعتمد على مدى جدوى الأدوات و السياسات النقدية المتبعة و النتائج المتوقعة و طرق الإستفادة منها على المدى القريب و المتوسط و الطويل. و على الجانب الآخر فإن الكثيرين يرددون كلام أصبح مستهلكاً عن ارتفاع أسواق الأسهم الامريكية منذ فوز ترامب و لغاية اليوم إلى قمم تاريخية، بالاضافة إلى تخفيض الضرائب بنسب كبيرة مما جعل البعض يركز على النتائج القصيرة الأجل و التي أعطت زخما محدود للدولار(الدولار/ ين هبط من قمة 2015 و خلال 12 شهر من مستوى 124 دولار إلى مستوى 98 دولار، ولكن منذ 2016 و لغاية اليوم لا تزال تحركاته محدودة ضمن نطاق سعري يمتد ضمن 104 دولار و لغاية 114 لم يلامس فيها ال 118 سوى مرتين) بدون أن يدرك هؤلاء حجم المخاطر المترتبة على هذه الإجراءات (و التي يعتبر تأثيرها التحفيزي لا يختلف في نتائجه عن تأثير مشروبات الطاقة)، و التي سينتج عنها حتماً ارتفاع العجز بسبب انخفاض الإيراد الضريبي الذي سيؤدي بالضرورة لانخفاض الإنفاق العام على مستوى الاقتصاد الكلي و بالتالي عدم وصول التضخم إلى المستويات التحفيزية المطلوبة و الدخول في حالة التباطؤ و من ثم الركود، أما على مستوى الاقتصاد الجزئي فإن التركيز كالعادة توجه إلى الهندسة المالية لتمويل عمليات إعادة شراء الأسهم من الوفورات الضريبة التي حققتها الشركات دون أن تدخل بشكل مباشر في تطوير و توسيع العمليات المباشرة و بالتالي في بناء و دعم الاقتصاد الفعلي إلاَ في حالات نادرة، أما عن الخلطة المستخدمة لخفض الضرائب فهي ليست سحرية ولا استثناء عبقري غير مسبوق و لا يملك ترامب براءة اختراعها الحصرية، فقد سبقه إليها الرئيس الأمريكي رونالد ريغان بما يسمى (اقتصاد الفودو) أو (ريغانوميكس) و الذي انتهج من خلالها نفس السياسات النقدية التي تحمل جانب عالي من المخاطر و التي تسببت بأزمة الثمانينات، اليوم يضاف إلى هذه النقطة تداعيات الحرب التجارية بين ترامب من جهة و بين الصين و روسيا و معظم الاقتصاديات الكبرى و حتى الناشئة من جهة أخرى.
يكفي أن نعلم أن عوائد الاستثمار في الذهب من قاع 2008 و لغاية ذروة 2011 وصلت الى حوالي 165% للصفقات طويلة الأجل و طبعا لو أخذنا الصفقات اليومية و القصيرة الأجل و المتوسطة بعين الاعتبار لكان معدل العائد أعلى من هذه النسبة بكثير.
لماذا سقوط المعادن الثمينة لا يتجاوز كونه حلم لن يلمس الواقع؟
- المراجعة التاريخية لعوائد المعادن تدعم ثقافة الملاذ الآمن و القادر على تحقيق العوائد من خلال الهامش المحقق فعلياً و الذي ذكرناه سابقاً.
- المعادن الثمينة تدعمها قاعدة الندرة و المحدودية الاقتصادية و التي ستعطي لها المزيد من القيمة مع تزايد تعداد السكان و زيادة استخداماتها الصناعية.
- المعادن الثمينة هي من الأصول الملموسة، المحدودة، والغير قابلة للانتاج مخبرياً.
- غير قابلة للزوال كما أنها لا تحمل نفس المخاطر التي تحملها الأدوات الاستثمارية الأخرى كالأسهم أو السندات و حتى العملات بأشكالها التقليدية و الرقمية.
- المعادن الثمينة هي من الأصول المصنفة كسلع ومن الطبيعي أنها تتأثر بشكل إيجابي و مباشر بارتفاع معدلات التضخم على المدى القريب و المتوسط و الطويل، و بكل تأكيد فإنه في الحرب على التضخم كل العملات خاسرة أمام السلع ولا عودة للوراء إلا بنطاقات محدودة و تصحيحية، و تبقى المنافسة و المكاسب محصورة بين العملات أمام بعضها البعض و ليس أمام الأصول السلعية أو الاستثمارية.
خلاصة القول:
بعيداً عن سيناريوهات الأزمات و التراجيديا و ثرثرة الانهيارات الاقتصادية و التي تعطي المزيد من التألق للمعادن الثمينة، فإن تنويع الاستثمار في المعادن الثمينة كان و لا زال و سيبقى من الاستثمارات المجدية و الربحية و التي تتمتع بأدنى عوامل مخاطرة على الإطلاق.