من راية الجلبي
بغداد (رويترز) - يحلو لسلام عطا صبري وهو جالس في شرفة بيته بالطابق الثالث عشر في وسط بغداد أن يسترجع ذكرياته عن ماضي مدينته الحافل بالحكايات وعن سنوات ما قبل صدام حسين والغزو الذي قادته الولايات المتحدة وغير وجه الحياة في المدينة إلى الأبد.
وفي عصر يوم من أيام فصل الربيع غطى الغمام فيه السماء، أشار الفنان التشكيلي صبري (55 عاما) إلى معالم وسط بغداد التاريخي مثل القصر العباسي الذي يرجع إلى القرن الثالث عشر وقلب المدينة الثقافي حول شارع المتنبي.
راح صبري يقلب وهو يرشف القهوة رسومات حديثة للمدينة بالحبر. وقال "أتذكر المشي في تلك الشوارع ذاتها وأنا صبي ... قبل أن يتغير كل شيء".
قال صبري إنه نشأ في بغداد لأب من المشاهير في عالم الفن ورحل عن العراق في التسعينيات عندما أصبحت الحياة لا تطاق بفعل العقوبات الاقتصادية المعوقة.
واسترسل في حكايته فقال "حتى عندما عشت في لوس انجليس أو عمان كان حلم العودة إلى بغداد يصاحبني على الدوام ... وفي حلمي سيظهر واقع جديد على الأرض، حرية جديدة ... ولهذا اخترت العودة".
إلا أنه عندما عاد صبري في 2005، أي بعد عامين من الغزو الذي أطاح بصدام حسين، كانت بغداد قد أصبحت مدينة تحت الحصار.
وكان من تداعيات الغزو حرب طائفية غيرت وجه بغداد والمجتمع الذي اعتاد على التعددية على نحو لا يمكن إصلاحه.
شاعت عمليات الخطف والقتل والتهجير القسري للمدنيين من جانب مقاتلين من السنة وفصائل شيعية. وتعرضت أقليات دينية لتهديدات كانت كافية لرحيل أفرادها جماعيا إما إلى الشمال أو إلى خارج البلاد.
وقال صبري "لكن طوال ذلك كله ظلت هي بغداد حبي وعشقي".
* كتل الخرسانة
يتفق كثيرون، صغارا وكبارا، ممن يتذكرون العراق قبل عام 2003، بل ومن لا يتذكرونه، مع صبري في إكباره لبغداد وماضيها كمركز للفنون والعلوم.
غير أن المدينة أصبحت الآن صورة باهتة لما كانت عليه في يوم من الأيام. فالحواجز الأمنية تعرقل الحركة في شوارع كانت من قبل مفتوحة وأصبحت كتل الخرسانة المسلحة تغطي فنون العمارة الشهيرة التي مزجت بين بيوت الطابوق (الطوب) التقليدية والمباني العصرية من تصميمات لو كوربوزييه ورفعت شادرجي.
أصبح انقطاع التيار الكهربائي أمرا شائعا وانتشرت مولدات الكهرباء تنفث أدخنتها السوداء لتزيد تلوث الهواء الذي يمثل مشكلة من أسوأ هذه المشاكل في المنطقة.
ولا تزال مياه الصرف الصحي غير المعالجة تتدفق في نهر دجلة وأصبحت الأماكن المتاحة على ضفتي النهر والمساحات المفتوحة للعب الأطفال قليلة.
* تفاؤل مشوب بالحذر
فتح هذا التدهور في جودة الحياة على مدار عقد من الزمان الباب أمام الحنين لعراق ما قبل 1980 الذي هوت فيه البلاد إلى أول حرب تخوضها من سلسلة حروب.
غير أن هادي النجار رئيس اتحاد المصورين العراقيين قال إن ذلك يمثل تصنيفا ينطوي على خطورة لماضي العراق الدكتاتوري.
وقال "قبل 2003 لم يكن بوسعنا إجراء مناقشة مفتوحة في مقهى في بغداد دون أن نقلق من أن يشي بنا أحد أو يشي بعضنا ببعض ... أما الآن على الأقل فلم نعد بحاجة لفرض رقابة على أنفسنا".
وبينما يجد أمثال صبري السلوى في الذكريات يتطلع آخرون من سكان بغداد إلى المستقبل بأمل متزايد.
ويقول هؤلاء إن الوضع في العاصمة تحسن في الآونة الأخيرة مع تراجع معدل الحوادث الأمنية وبعد رفع حظر التجول المشدد في 2015 مما سمح بازدهار المطاعم في الأحياء الراقية مثل حي المنصور.
قال مصطفى يونس (27 عاما) الذي يعمل في صيدلية وفقد اثنين من أشقائه خلال تفجيرات في بغداد في السنوات العشر الأخيرة "منذ 2003 ونحن نحاول فقط البقاء على قيد الحياة".
وأضاف يونس "أما الآن وللمرة الأولى بدأنا نفكر في المستقبل".
(إعداد منير البويطي للنشرة العربية - تحرير علا شوقي)