يبدو أن كل محادثة اقتصادية تقريبا هذه الأيام تدور حول التضخم، ويبدو أن كل سؤال يؤدي إلى آخر، فهل هو مؤقت؟ هل سيزداد سوءًا؟ إذا كان الأمر كذلك، فمتى؟ وإلى متى؟
أي من العوامل العديدة – بما في ذلك الطلب المرتفع بعد كوفيد 19، ونقص سلسلة التوريد، والتحفيز المالي والنقدي، وسياسات الطاقة، أو كل التغييرات العديدة في كيفية عيشنا وعملنا ولعبنا بعد الوباء – يجب أن يكون أكثر أهمية عندما نحاول رسم صورة لما يحدث؟
في كل الجدل، ثمة نقطة واحدة لا تحصل إلا على القليل من النقاش: دور التكنولوجيا الذي يمكن القول إنه أهم متغير فيما قد يحدث للتضخم على مدى السنوات العديدة القادمة.
لكل عامل تضخمي، بدءا من نقص العمالة إلى اختناقات النقل، وتكاليف الوقود، أو حتى الضغوط طويلة الأجل مثل شيخوخة السكان، يوجد تغير تكنولوجي يلوح في الأفق يمكن أن يحول حسابات التسعير بطرق يصعب التنبؤ بها.
ولننظر على سبيل المثال إلى انتقال الطاقة النظيفة إذ يؤدي الطلب على السيارات الكهربائية بالفعل إلى ارتفاع أسعار السلع منها النحاس والليثيوم والنيكل والكوبالت، وتعد المركبات الخضراء ومحطات الطاقة أكثر كثافة في استهلاك المعادن من التقنيات التي تحل محلها، ومع تحرك المزيد من الشركات والدول نحو فرض ضريبة الكربون والسعي للحد من إنتاج الوقود الأحفوري، قد ترتفع أسعار الطاقة أكثر على المدى القصير، لكن الخط الزمني الأوسع هو بالطبع ما يهم.
ورغم أن الانتقال السريع إلى عالم أنظف سيخلق بعض الضغوط التضخمية، فإنه سيخفض بشكل كبير تكلفة الكوارث المرتبطة بالمناخ على المدى الطويل، كما أن الابتكار التكنولوجي بحد ذاته يخفض التكاليف في النهاية.
تُظهر بيانات مورجان ستانلي (NYSE:MS) أنه، بغض النظر عن الارتفاعات القصيرة الأجل، فقد كان اتجاه أسعار السلع هبوطيا خلال 200 عام، وذلك لأنه في كل مرة يصبح فيها أحد مصادر الطاقة باهظ الثمن ، يتم اختراع مصدر جديد ليحل محله، ربما نتجه إلى شتاء بارد ومكلف، ولكن بالنظر إلى انخفاض تكاليف التكنولوجيات المتجددة مثل الألواح الشمسية ومزارع الرياح (وزيادة الاستثمار العام والخاص فيها)، فهناك سبب وجيه للأمل في أنه بمرور الوقت، يمكن أن تكون الوجهة النهائية مكانًا أفضل وأرخص بكثير.
ماذا عن الجوانب التضخمية لتأخيرات سلسلة التوريد؟
يعتقد بعض خبراء اللوجستيات أن عقبات الموانئ ستستمر لسنوات، ومع ذلك ، فإننا نشهد بالفعل أكبر وأغنى الشركات (أمازون، وول مارت، كوستكو، على سبيل المثال) وهي تتكيف مع المشكلات بابتكارات خاصة بها، وتشمل هذه الابتكارات مزيدا من التكامل الرأسي (على سبيل المثال، امتلاك بعض حاويات الشحن الخاصة بهم بدلاً من استئجارها للسماح بمزيد من التحكم) وأيضا استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي لتتبع عمليات التسليم بشكل أفضل.
تحظى المركبات ذاتية القيادة، سواء الشاحنات أو السفن، بدفعة جديدة من الاهتمام، وسيتم اختبار أول سفينة حاويات مستقلة في النرويج بحلول نهاية العام، وإذا جعلت هذه الأنظمة حركة المرور سلسلة، فستبدأ بعض التأخيرات المتعلقة بسلسلة التوريد وضغوط الأسعار في التراجع.
مع انتشار إنترنت الأشياء في كل مكان، ستستخدم المزيد من الشركات تقنيات جديدة لتحسين الكفاءة، وكما أشارت الرئيس التنفيذية لشركة “أرك انفستمنت مانجمنت”، كاثي وود، في مقابلة أجريت معها مؤخرًا، فإن مثل هذه الابتكارات ، والتي تشمل التنقل الذاتي، وبلوكتشين، وتحرير الجينات، والروبوتات التكيفية والشبكات العصبية، من المرجح أن تمهد لفترة من الانكماش وليس التضخم على المدى الطويل، بالنظر إلى عمق واتساع تأثيرها في جميع مجالات الأعمال.
بالتأكيد، ستهز هذه الابتكارات أسواق العمل بطرق لا يمكننا تصورها بعد، ويمكن للتكنولوجيا، على سبيل المثال، أن تلعب دورا مهما في موازنة الضغوط التضخمية من جيل طفرة المواليد المسنين، الذين سيحتاجون إلى مزيد من الرعاية في الوقت الذي تتقلص فيه القوة العاملة تماما، عن طريق زيادة إنتاجية العاملين في الرعاية الصحية والنظام الحاليين.
من المرجح أن تكون الصين، التي ضخت 1.5 مليار دولار في استخدام البيانات الضخمة في مجال الرعاية الصحية على مدار العقد الماضي (والعديد من المليارات الأخرى في الذكاء الاصطناعي) مركزًا للتشخيصات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي والابتكار في مجال الرعاية الصحية، ستختلف سياسات استخدام البيانات الضخمة في المجالات الحساسة مثل الرعاية الصحية والتمويل، بالطبع ، من بلد إلى آخر، حيث يتصارع المنظمون مع الآثار الاجتماعية لهذه التقنيات المتطورة.
هذه الاختلافات في السياسات الوطنية يمكن أن تكون تضخمية بحد ذاتها إذا ساهمت في صراعات عبر الحدود في الأعمال التجارية العالمية خاصة عندما يتعلق الأمر بحركة الأشخاص والسلع ورأس المال، وفي عالم متعدد الأقطاب، سيكون هناك حتمًا المزيد من التأخيرات والنقص والتفاوت في العرض والطلب على المدى القصير.
ومع ذلك، فإن حقيقة أن الاقتصاد العالمي قد أصبح أكثر انقسامًا إلى حد ما خلال العامين الماضيين هو أيضًا فرصة للابتكار المدفوع بالتكنولوجيا والذي يمكن أن يؤدي في النهاية إلى انخفاض الأسعار، ولننظر على سبيل المثال إلى المزارع العمودية التي تنمو وتنتج محاصيل على بعد دقائق من الأماكن التي يأكل الناس فيها، وستقضي منصات الرعاية الصحية عن بُعد والتعليم الافتراضي على تكاليف السفر، وسيختزل التصنيع ثلاثي الأبعاد سلاسل التوريد المعقدة والبعيدة.
هذه ليست سوى حفنة من العديد من التقنيات الجديدة التي تزدهر حاليا، ويمكن القول إن التغيير الذي يمكن أن يجلبه مثل هذا الابتكار هو الاتجاه الرئيسي الوحيد لخفض التضخم في الوقت الحال، لكنه قد يثبت أنه أقوى تغيير مر على البشرية.
بقلم: رنا فوروهار، كاتبة مقالات رأي بشأن الأعمال العالمية، ومحرر مشارك في “فاينانشال تايمز”.
المصدر: صحيفة “فاينانشال تايمز”.