أحمد مصطفى.
القاهرة، 2 يوليو/تموز (إفي): دعهم ينتقدونك ويتفلسفون في تصيد الأخطاء لك، دعهم يتهمونك بالملل ونزع المتعة عن كرة القدم، ويملأون الدنيا ضجيجا حول تشبع لاعبيك من البطولات.. فطالما يتحقق الفوز وتتوالى الانتصارات، فإن تلك الألسنة ستخرس من تلقاء نفسها، وسيدّعي منتقدوك أنهم كانوا من أشد مؤيديك، وتتحول أنت من فريسة إلى بطل شعبي.
هكذا كان لسان حال المدرب القدير فيسنتي ديل بوسكي على مدار أيام بطولة يورو 2012 ، فبينما يحقق منتخب إسبانيا الانتصارات والنتائج الإيجابية على أراضي بولندا وأوكرانيا، كانت المقصلة تعد له في بلاده وفي مختلف أنحاء العالم للإطاحة برأسه مع أقرب إخفاق له، لكن العجوز المتواضع لم يعبأ بهم وظل محافظا على مبادئه حتى كان النصر حليفه، لتفتح له أبواب التاريخ على مصاريعها.
تحمل ديل بوسكي ما لا يتحمله بشر، فالضغط كان شديدا للغاية قبل انطلاق اليورو، ولكنه تتضاعف وتتضاعف مع مرور الأيام وتعاقب المباريات، فبطل العالم وأوروبا مطالب بالحفاظ على عرشه وإرضاء جماهيره في مختلف بقاع الأرض بأداء مقنع مع تصاعد أسهم الألمان والهولنديين.
استهل الماتادور حملة الدفاع عن لقب اليورو بمواجهة كلاسيكية من العيار الثقيل أمام إيطاليا في دور المجموعات، وانهال النقد على ديل بوسكي حتى من قبل صافرة البداية، فقد تفاجأ المحللون والمشجعون بطريقة لعب غير مؤلوفة (4-6-0) لا وجود فيها لرأس حربة أو مهاجم صريح في فريق مطالب دوما بالفوز وإحراز الأهداف.
مقاعد البدلاء تعج بالهدافين، فيجلس عليها فرناندو توريس بطل أوروبا مع تشيلسي وصاحب هدف حسم يورو 2008 ، وفرناندو يورينتي عملاق أثلتيك بلباو ذو الأداء الخارق في دوري أوروبا والليجا، وألبارو نيجريدو قوي البنية ونجم هجوم إشبيلية، فضلا عن بدرو رودريجز نجم برشلونة والقناص السريع، وهؤلاء فضلهم المدرب على المخضرم راؤول جونزاليس وروبرتو سولدادو رغم تألقهما مع شالكه الألماني وفالنسيا.
لكن ديل بوسكي كان له فكر مختلف، فامتنع عن اللعب برأس حربة، ومنح لقائد أرسنال السابق ونجم البرسا سيسك فابريجاس صلاحيات اللعب كرقم (9) وهمي، ليراهن عليه بمفرده في قيادة هجوم لاروخا.
مرت المباراة الأولى على خير بنتيجة التعادل مع الأتسوري 1-1 ، وفيها نجح فابريجاس في تسجيل التعادل بعد ثوان من هدف التقدم لأنطونيو دي ناتالي، ثم سحبه في أواخر الشوط الثاني ليدفع بتوريس الذي كاد يسجل هدفين لولا براعة العملاق جيانلويجي بوفون ورعونة مهاجم أتلتيكو مدريد وليفربول السابق.
تركزت الانتقادات على غياب رأس الحربة وضعف قلبي الدفاع والظهيرين، واقتصار المديح فقط على لاعبي خط الوسط بقيادة أندريس إنييستا ومعاونة تشابي ألونسو وتشافي هرنانديز وسرجيو بوسكيتس وديفيد سيلفا وسيسك فابريجاس، وكان مكمن الانتقاد أن هذا الخط الأسطوري يمنع الخصم من تهديد الدفاع الهش، وإن نجح في الاختراق فلا خوف في وجود حارس مثالي مثل إيكر كاسياس، كما أن هذا الخط نفسه يقوم بالمهام الهجومية في تفكيك دفاعات المنافسين بالتمريرات البينية واستغلال أقل خطأ أو هفوة لتسجيل أهداف.
كما ألصق النقاد بديل بوسكي تهمة التقليد الأعمى لأسلوب بيب جوارديولا مدرب برشلونة السابق المعروف بـ"التيكي تاكا"، والمتعلق بتبادل أكبر قدر من التمريرات القصيرة والسريعة لإنهاك الخصم بدنيا وفتح ثغرات في قلب دفاعه، ورغم أن هذا أمر لا يعيبه، لأن أغلب لاعبي المنتخب من نجوم البرسا، وأنه يملك الحق في استخدام أنسب طريقة مريحة للاعبيه، إلا أن الاتهامات استمرت بحجة عدم وجود "شبيه ليونيل ميسي" الذي يعطي بعدا هجوميا للتيكي تاكا بالوصول بأسهل الطرق إلى مرمى المنافس.
وامتد الأمر إلى اتهام مدرب ريال مدريد السابق بالملل، لأن لاعبيه يكتفون بالتمرير ولا شئ غير التمرير دون التحلي برؤية هجومية واضحة أو الطمع في تسجيل أهداف، وخاصة في مباريات كرواتيا في ختام دور المجموعات (1-0)، وأمام فرنسا في ربع النهائي (2-0)، وفي نصف النهائي أمام البرتغال (4-2) بركلات الترجيح.
وأمام هذا السيل من الانتقادات، كان ديل بوسكي هادئا كعادته، يمثل أمام الصحفيين برزانته المعهودة مؤكدا أنه لا يشعر بالغضب من النقد وإن كان لاذعا، وأنه اكتسب خبرة وحكمة طويلة في عالم المستديرة الساحرة تعلم منها كيف يتحكم في أعصابه ويشق طريقه بثبات انفعالي دون أن يلتفت لمن حوله، ليشدد على أنه لن يتخلى عن أسلوب لعبه وأنه وحده صاحب القرار.
احتفظ بطل العالم 2010 بثبات في التشكيل في وجود كاسياس في حراسة العرين، ومن أمامه جيرار بيكيه وسرخيو راموس كقلبي دفاع، واختيار الأخير في هذا المركز جاء استغلالا لنجاح مغامرة البرتغالي جوزيه مورينيو في الدفع به في نفس المكان مع ريال مدريد، كما يحسب لديل بوسكي إزالة أي رواسب توتر بين اللاعبين على خلفية مباريات الكلاسيكو، حيث بدا الثنائي متجانسا في الخط الخلفي، ومنعا اهتزاز شباكهما إلا في مرة واحدة خلال ست مباريات.
ولم يدفع المدرب برأس حربة من بداية أي مباراة سوى أمام أيرلندا في ثاني مباريات دور المجموعات، فأمام دفاعها الضعيف رأى أن توريس ستكون أمامه فرصة للتألق، وبالفعل تمكن من تسجيل هدفين من أصل رباعية نظيفة، وأمام فرنسا في دور الثمانية لعب بنيجريدو أساسيا، لكنه ظهر كالشبح ليستبدله بفابريجاس مطلع الشوط الثاني.
كما اكتشف موهبة ظهير فالنسيا السريع جوردي ألبا المنتقل حديثا لبرشلونة، حيث قدم بطولة رائعة وأداء متميزا في الرواق الأيسر، والجميع يتذكر صناعته لهدف ألونسو الأول في مرمى "الديوك"، وهدفه التاريخي في مرمى بوفون في نهائي اليورو بعد ماراثون عدو أوليمبي.
وبالمثل راهن ديل بوسكي على الظهير الأيمن ألبارو أربيلوا الذي منحه ثقة كاملة رغم أخطائه الفادحة ومطالبات الجماهير المتكررة بالدفع بخوانفران لاعب أتلتيكو مدريد، فصبر عليه حتى النهاية السعيدة.
وإذا كان النقاد قد استمروا في هجومهم على ديل بوسكي حتى صافرة بداية المباراة النهائية، فقد تحولوا إلى النقيض ورفعوه إلى عنان السماء بعد الفوز المصحوب بأداء راق وممتع أجبر الطليان على الركوع ليسمحوا بإنتهاك حرمة شباك بوفون برباعية غير مسبوقة في تاريخ نهائي البطولة، حتى بدا أن إسبانيا تلعب مباراتها الأولى وليست الأخيرة في البطولة بحماس منقطع النظير ومجهود بدني فائق.
أصبح ديل بوسكي أول مدرب في التاريخ يتوج بكأس عالم ويورو ودوري أبطال أوروبا، ليحلّق شيخ مدربي العالم على العرش بمفرده ويجبر منتقديه على الاختباء بجحورهم أو منافقته أو الاعتراف بأخطائهم والإشادة بدهائه وحكمته.
ونقل ديل بوسكي تواضعه وهدوئه للاعبيه، حتى تجلى ذلك واضحا عقب صافرة نهاية مباراة إيطاليا، فلم تكن هناك مبالغة في الأفراح أو استفزاز لمشاعر الخصم، وكانت تلك رسالة ضمنية لمهاجميه مفادها "قافلة النقاد تعوي.. وإسبانيا على العرش" بعد أن صارت تملك أول منتخب في العالم يتوج بـ(يورو + مونديال + يورو).
وفي نشوة الفرح والانتصار لم ينس ديل بوسكي أن ينسب الفضل لسلفه لويس أراجونيس الذي أبدع في صناعة هذا الجيل الذهبي، نواة أفضل منتخب في التاريخ. (إفي)