حسناً فعل البنك المركزى المصرى بإطلاق مبادرة لإسقاط ديون العملاء المتعثرين من السداد، وعلى رأسهم المصانع المتعثرة. على الرغم من أن المبادرة جاءت متأخرة، إنما كما يقول المثل «أن يأتى متأخراً خير من ألا يأتى أبداً«. ولكى أكون أكثر دقة، فإنَّ المبادرة تتعلق بإعفاء عملاء البنوك المتعثرين من فوائد الديون، وغرامات التأخير والدعاوى القضائية، مقابل سداد أصل الدين نقداً. ويستفيد من المبادرة نحو 5 آلاف مصنع متعثر و75 ألفاً من عملاء التجزئة المصرفية، بالإضافة إلى 27 ألف عميل من عملاء البنك الزراعى المصري. فما هو التعثر كما تراه البنوك؟ وما أسبابه؟ وما هى تفاصيل المبادرة؟ وهل بالفعل هى كافية لعلاج معظم حالات التعثر؟ كل هذه الأسئلة سوف نوجزها فى هذا المقال مع التركيز بصفة رئيسية على المصانع المتعثرة.
بداية نستهل بشرح ما هو التعثر من وجهة نظر البنك. التعثر هو حالة ناجمة عن العديد من الأسباب والعوامل تتفاعل عبر مرحلة من الزمن وتؤدى إلى الحالة التى يصل فيها المشروع إلى عدم قدرته على سداد التزاماته والحصول على أموال جديدة والعودة إلى وضع يؤهله لاستعادة توازنه المالى والتشغيلى. فالتسيهلات الائتمانية التى حصل عليها المشروع من البنوك يفشل فى سداد قيمتها والفائدة المستحقة عليها فى آجال الاستحقاق، وبمرور الوقت تتحول حسابات هذه التسهيلات الائتمانية إلى ديون مشكوك فى تحصيلها ثم إلى ديون معدومة.
لا يعلم أحد على وجه اليقين ما هو عدد المصانع المتعثرة، سواء كان التعثر جزئياً أو توقفاً كاملاً عن الإنتاج. يرجع ذلك إلى تضارب الأرقام الصادرة عن مختلف الجهات سواء كانت وزارة التجارة والصناعة، أو اتحاد الصناعات، أو الاتحاد المصرى لجمعيات المستثمرين وغيرها. كل جهة من هذه الجهات صرحت ببيانات مختلفة تتغير بين الحين والآخر منذ بداية المشكلة خصوصاً بعد ثورة يناير 2011، على سبيل المثال، وفقاً لتصريح حديث لوزير التجارة والصناعة، أفاد بأن حالات التعثر تنقسم بين تعثر كامل وتعثر جزئى، وأنه جارٍ إعادة تشغيل نحو 66 مصنعاً من 135 مصنعاً متعثراً يمكن إعادة تشغيلها من خلال ضخ أموال لإعادة تشغيلها مرة أخرى. كما أشار إلى أنه تتم دراسة ملفات باقى المصانع المتعثرة عن طريق صندوق رأس المال المخاطر الذى تم إنشاؤه بالتعاون مع صندوق «تحيا مصر» وبنك الاستثمار.
ومن ناحية أخرى، للتدليل على تباين المعلومات عن المصانع المتعثرة، أجرت جريدة »البورصة” مسحاً على 10 جمعيات مستثمرين فى مختلف المناطق الصناعية؛ حيث بلغ إجمالى المصانع العاملة فيها نحو 7587 منشأة، فى حين بلغ عدد حالات التعثر الكلى 1144 منشأة منها، أما عدد المنشآت المتعثرة جزئياً، فيبلغ نحو 132 منشأة، بحسب بيانات جمعيات المستثمرين.
تتنوع أسباب التعثر بين عدم القدرة على سداد القروض المستحقة للبنوك، والمديونيات المستحقة للضرائب والتأمينات، وسوء الإدارة، ومنافسة المنتج المستورد، وضعف فرص التصدير، وارتفاع تكاليف الإنتاج بعد تحرير سعر الصرف، بالإضافة إلى عدم القدرة على التسويق الجيد للمنتجات، والخلل فى أساليب الإدارة والتشغيل والرقابة والضبط الداخلى.
وفى أعقاب ثورة يناير 2011 ظهرت على السطح تداعيات سلبية بتأثير الانفلات الأمنى والسطو على المخازن وشحنات المنتجات على الطرق، وتوقف الإنتاج لعوامل تتعلق بالخامات وقطع الغيار، والمطالب الفئوية للعمال التى كانت غالبا ما تعطل الإنتاج.
من الخطأ التصور بأن التعثر يعود لأسباب تمويلية فقط. فهناك حالات يكون التعثر بسبب عدم الجدوى الاقتصادية للمشروع، والتقدير الخاطئ لحجم الطلب على السلع المنتجة وتشبع السوق منها ووجود منافسة قوية من منتجات مماثلة سواء محلية أو مستوردة، بالإضافة إلى أسباب تتعلق بتقنيات الإنتاج وبالتسويق والترويج.
وبالعودة مرة أخرى إلى مبادرة البنك المركزى المصرى التى يعتزم إطلاقها فهى تخص إعادة جدولة ديون المصانع المتعثرة لدى البنوك وإسقاط الفوائد المستحقة على مديونيات هذه المصانع، كما سيتم التنازل عن القضايا المنظورة أمام القضاء بين العملاء المتعثرين والبنوك. وبشكل عام تهدف المبادرة إلى تشجيع المصانع المتعثرة على العودة للعمل مرة أخرى.
وسوف يشارك فى هذه المبادرة التى حدد مدتها بستة أشهر من تاريخ الإعلان عنها تسعة بنوك وهى البنك الأهلى المصرى، وبنك مصر، وبنك القاهرة، والبنك الزراعى المصرى، وبنك التنمية الصناعية، والبنك العقارى المصرى، والبنك المصرى لتنمية الصادرات، بالإضافة إلى المصرف المتحد. أما المستفيدون من المبادرة فهم الأفراد الطبيعيون، باستثناء عملاء البطاقات الائتمانية، والشركات بجميع أنواعها وأشكالها القانونية بشرط ألا تتجاوز مديونية العميل الواحد 10 ملايين جنيه.
والفائدة التى سيجنيها العملاء المتعثرون هى سداد أصل المديونية بالكامل مقابل إسقاط الفوائد، والتنازل عن جميع القضايا المرفوعة على العميل، وإبراء ذمته، مما يتيح للعميل رفع اسمه من القوائم السلبية لدى البنك المركزى، وتحديث موقف السداد فى قاعدة بيانات الشركة المصرية للاستعلام الائتمانى I-Score والإفراج عن الضمانات العينية المقدمة من العميل، ووقف حظر التعامل معه فور قيامه بالسداد مما يتيح للعميل التعامل مرة أخرى مع البنوك بعد إبراء ذمته.
جاءت المبادرة منسجمة مع توجهات القيادة السياسية بتخفيف الضغوط على قطاعات الأعمال ومنحها حوافز للعودة إلى نشاطها مما يساهم فى تنشيط السوق وتخفيف عبء البطالة. كما تعتبر المبادرة محفزاً قوياً لإحياء الصناعات المصرية وزيادة نسبة النمو الصناعى فى الناتج المحلى الإجمالى. كذلك سوف تساهم فى تنشيط الركود فى الأسواق حال عودة المصانع للإنتاج وتخلق فرص عمل مما يساهم فى تخفيف حدة البطالة.
بالقطع ليس من المتوقع أن تكون مبادرة البنك المركزى كافية لعلاج كافة أشكال التعثر، فليس هناك وصفة سحرية تعالج كل هذه المشاكل وتصلح للتطبيق على كل المصانع المتعثرة. لذلك وقبل البحث عن حلول يجب تشخيص أسباب التعثر جيداَ، وتصنيفها إلى مجموعات رئيسية تليها تصنيفات أخرى متدرجة على نمط هرم مقلوب حتى يتم التشخيص الدقيق لكافة المشاكل والمعوقات- سواء كانت تتعلق بالتشغيل أو التسويق أو النواحى المالية – ومن ثم وضع الحلول المناسبة والإطار الزمنى للتنفيذ وتحديد الموارد المالية والبشرية والفنية.