مع الخطوات المتسارعة لما يمكن تسميتها بالثورة القادمة ( تقنية Blockchain أو ما تسمى بسلسلة الكتل) قد يتساءل البعض عن كيف يمكن لهذه الثورة أن تخدم البشرية, من هذا المنطلق أحببت أن أوضح قدرات هذه التقنية وكيف يمكن أن تخدم الانسان في حل عدداً من المشاكل التي تحيط به في بيئة اقتصادية, مالية وسياسية مثقلة بالعديد من المشاكل.
تقنية سلسلة الكتل بالتأكيد لها سلبياتها حالها حال أي تقنية رقمية نعايشها, لكن لا يجب النظر إليها من الجانب السلبي فقط فالجانب الايجابي يفوق بكثير الجانب السلبي لها, فهذه الثورة لا تختلف عن ثورة الانترنت, والسوشيال ميديا وغيرها بكونها تملك جوانب سلبية وجوانب ايجابية, لكن ومن خلال العرض التالي سنرى أن الجانب الايجابي لهذه الثورة يبشر بازدهار كبير في الحياة اليومية للبشر.
سأعرج أولاً إلى التعريف بهذه التقنية كما يلي:
يمكن وصف الـ Blockchain أو سلسلة الكتل باختصار بأنها "سجل استاذ للمعاملات Transactions Ledger ", تشبه إلى حد كبير لأن تكون قاعدة بيانات لا مركزية تحتوي على تشكيلة واسعة من السجلات, يتم خلق هذه السجلات من قبل الأطراف التي تتعامل بها وفق قواعد تحقق عالية الجودة, كما لا يمكن بأي حال من الأحوال تعديل هذه السجلات من قبل أي طرف سواء المتعاملين بها او أي سلطة أخرى (طرف ثالث) وهو ما يجعلها مخزن معلومات يمكن الاعتماد عليه.
تتصف تقنية سلسلة الكتل بالعديد من السمات التي تميزها عن غيرها من قواعد البيانات فهي لا مركزية لكونها لا تخضع لأي سلطة, تتمتع بدرجة أمان عالية, كما أن البيانات التي تضمها سرية ولا يمكن للمتطفلين الاطلاع عليها, وبكونها قاعدة بيانات عملاقة فأنها بالتأكيد تحتاج لأن تتمتع بسرعة عالية, وأخيراً انخفاض تكلفة نقل البيانات (أو بالأصح العملات الرقمية) بين المتعاملين بها في اطار هذه التقنية.
كل كتلة Block تعبر عن عدداً من سجلات المعاملات, ويعبر Chain عن عملية ربط كل كتلة ببعضها بما يشبه السلسلة, فعند انشاء سجل جديد يتم أولاً التحقق من بيانات السجل عبر شبكة واسعة من الحواسيب وذلك قبل اضافة الكتلة إلى طرف السلسلة الأخير, ولذا اطلق عليها مصطلح Block-chain.
لكن يجب هنا الإشارة إلى ان سلسلة الكتل ليست هي نفسها عملة البيتكوين ويمكن القول بأن سلسلة الكتل هي منصة بينما البيتكوين (أو غيرها من العملات) هي عملة افتراضية, ويشير مركز هردو لدعم التعبير الرقمي إلى أن "تكنولوجيا سلسلة الكتل تساعد على الحفاظ على قوائم مقاومة للتلاعب في سجلات البيانات المتنامية باستمرار كما تتيح تبادلاً أمناً للمواد القيمة كالأموال أو الأسهم أو حقوق الوصول إلى البيانات, كما لا يوجد حاجة لوسيط أو نظام تسجيل مركزي لمتابعة حركة التبادل بل تقوم كل الجهات بالتعامل مباشرة مع بعضها البعض".
تطورت تقنية سلسلة الكتل عبر الزمن من خلال العديد من المشاريع والتحديثات التي قامت بها العديد من العملات, فمثلا أسهم ظهور عملة ايثريوم في إضافة سمة جديدة لهذه التقنية تدعى العقود الذكية Smart Contract, كما أن ظهور عملات أخرى كـ EOS, Infinity ساهم في تحسين سرعة أداء هذه التقنية بعد أن بدأت تفقد التقنية جزء من سرعتها بسبب الضغط الكبير من التعاملات التي تعرضت له عملتي بيتكوين و ايثريوم وما تسبب به هذا الضغط أيضاً من ارتفاع في تكلفة انتقال العملات الرقمية بين المتعاملين.
بعد التعرف السريع على هذه التقنية, دعونا ننظر إلى ما يمكن لهذه التقنية أن تقوم به, إن تمتع هذه التقنية بالعديد من السمات (لا مركزية, سرعة, أمان, سرية, تكلفة منخفضة بالإضافة إلى العقود الذكية) يؤهلها إلى حل الكثير من المشاكل التي نعاصرها في الوقت الراهن, ويبدوا هذا الأمر جلياً من خلال مشاريع العديد من العملات التي تظهر يوماً بعد آخر, خلال الجزء التالي سنرصد لكم بعضاً من هذه الامكانيات كما يلي:
أولاً: حركة الأموال بين الدول:
من المشاكل التي تعاني منها حركة الأموال بين الدول هو ارتفاع التكلفة والقيود المفروضة على حركة الأموال وانتهاك الخصوصية خصوصاً تلك التي تقوم بها الجهات الحكومية, ولكن مع انتشار التعامل بالعملات الرقمية أصبح بالإمكان ومن خلال تقنية سلسلة الكتل أن يتم إرسال واستلام الأموال من بلد إلى آخر بتكلفة منخفضة جداً (قد لا تتعدى سنتات معدودة) وبدون أية قيود تذكر, بالإضافة إلى الحفاظ على سرية البيانات كبيانات المرسل والمستلم. فمثلاً تتيح عملتي XRP, XLM ذلك من خلال بروتكولاتها التي تعمل في اطار سلسلة الكتل وهو ما لفت أنظار المؤسسات المالية والمصرفية نحو امكانية الاعتماد على هاتين العملتين.
ثانياً: قطاع الطيران والسياحة:
يعاني قطاع الطيران والسياحة من مشكلة ارتفاع التكاليف وهو ما ينعكس بدوره على أسعار خدمات الطيران, وتشرح Winding Tree بأن ارتكاز هذا القطاع على وجود عدة وسطاء (2-3 وسطاء على الأقل) يؤدي بدوره إلى ارتفاع تكلفة الخدمة, وتسعى الشركة إلى تقديم آلية تعتمد على تقنية سلسلة الكتل من خلالها يمكن إلغاء الحاجة إلى وجود الوسطاء ومن ثم الاسهام في تقديم خدمات سفر وسياحة للعملاء بأقل الأسعار.
ثالثا: القطاع الصحي:
ماذا يمكن أن يحصل في حال توافرت بيانات طبية كاملة ودقيقة وغنية عن كل البشر من أول يوم يولدون فيه؟ بالتأكيد فإن ذلك سيعزز من أداء مهنة الطب, حيث سيصبح بإمكان الطبيب الاعتماد على بياناتك الطبية السابقة (بغض النظر عن المكان الذي زرته لإجراء فحوصاتك السابقة) وتشخيص حالتك وذلك من خلال سجلك الطبي المتوفر في سجلات سلسلة الكتل, وماذا عن الأبحاث الطبية.. بالتأكيد أن توافر بيانات غزيرة عن الحالات المرضية سيعزز من كفاءة وفاعلية الأبحاث والدراسات.
رابعاً: تحسين جودة الخدمات وتخفيض التكاليف:
مع زيادة حدة المنافسة يصبح من اللازم على شركات الأعمال العمل على تخفيض تكاليفها وبما لا يؤدي (على الأقل) إلى انخفاض جودة منتجاتها وخدماتها, وعلى ضوء ذلك برزت مداخل إدارية حديثة تُعنى بتحقيق هذا الأمر عن طريق التخلص من الأنشطة الغير مضيفة للقيمة, ومن أبرز هذه المداخل هو مدخل سلسلة التزويد Supply Chain, وبموجب هذا المدخل اصبح بالإمكان التخلص من أكثر الأنشطة تأثيراً على هيكل التكاليف رغم كونه لا يضيف قيمة إلى المنتج (المخزون).
مع ذلك لا تزال بعض شركات الأعمال تعاني من بعض المشاكل, فعلى سبيل المثال تدرس شركة Walmart مدى إمكانية الاعتماد على تقنية سلسلة الكتل لتعزيز كفاءة مدخل سلسلة التزويد وذلك لتتبع حركة السلع (كالمانجو واللحوم) داخل سلسلة التزويد من أجل الوقوف على مدى سلامة هذه السلع وتجنب وصولها فاسدة إلى يد المستهلك, وأوضحت النتائج أنه بالإمكان تخفيض زمن تتبع السلعة من اول نقطة لها (المزرعة) إلى اخر نقطة (متاجر البيع) من أسابيع إلى وقت قصير جداً يقدر بـ 2 ثانية فقط.
إن تخفيض الزمن اللازم لمعرفة حالة السلعة قبل وصولها إلى يد المستهلك في قطاع الصناعات الغذائية من أسابيع إلى ما يقارب 2 ثانية فقط يعزز بالتأكيد رضا المستهلك من خلال ضمان عدم وصول بضائع فاسدة إليه (حيث لا ننسى بأن الهدف الأول لشركات الأعمال الحديثة هو رضا العملاء).
خامساً: مشاركة الموارد التقنية:
لم يخطر في البال سابقاً بأنه من الممكن أن يتم مشاركة الموارد التقنية (الفائضة) بسهولة ويسر بين المستخدمين حول العالم, لكن مع تقنية سلسلة الكتل أصبح هذا الامر سهلاً للغاية.
فقد لوحظ من خلال دراسة بعض العملات الرقمية أنها تسعى إلى تحقيق مشاريع إبداعية, فعلى سبيل المثال تهدف عملة Sia Coin من خلال مشروعها إلى استغلال السعات التخزينية الفائضة في Hard Disk التي تتواجد في معظم أجهزة الحاسوب الشخصية حول العالم وتأجيرها للغير, فمن خلال هذا المشروع يتم استئجار هذه المساحات الشاغرة مقابل منح أصحابها عملة رقمية, ومن ثم يقوم المشروع بتأجيرها عن طريق خدمة التخزين السحابي Cloud Storage بأسعار رخيصة, هذا المشروع اتاح المجال للشركة أن تقدم خدمة التخزين السحابي لسعة 1 تيرابايت برسوم تصل إلى أقل من 3$ في الشهر مقارنة برسوم نفس الخدمة البالغة 23$ والتي تقدمها شركة Amazon.
لا يقف الأمر عند هذا الحد, فهناك مشاريع أخرى, بعضها تسعى إلى استئجار الطاقة الكهربائية الفائضة التي تنتجها الألواح الشمسية المنتشرة في المناطق المستهدفة ومن ثم اعادة بيعها لمن يحتاج إليها, ومشاريع أخرى تسعى إلى توظيف عملية التعدين باستخدام البطاقات الرسومية GPU في تحسين جودة الأمن وذلك من خلال انشاء عقود ذكية لربط كاميرات المراقبة المنتشرة في الأحياء والشوارع واستخدام القدرات العالية للبطاقات الرسومية (المستخدمة في التعدين) لمعالجة الصور التي يتم التقاطها عبر هذا الكاميرات واتاحة هذه الثورة الأمنية للأجهزة الحكومية بما يعزز من الأمن.
سادساً: أسواق الأوراق المالية:
من المعروف بأن أسواق الأوراق المالية Securities Markets تعتبر هي حلقة وصل بين وحدات الفائض (المستثمرين) ووحدات العجز (المصدرين للأوراق المالية), ورغم تطور الأسواق المالية إلا أنها لا تزال تعاني من بعض السلبيات كما يلي:
في ظل الأسواق المالية الحالية ينحصر عادة جمهور المستثمرين في الأفراد المتواجدين في الحدود الجغرافية للسوق المالية, وبالتالي فإن الشركات في سعيها للحصول على احتياجاتها المالية ليس أمامها سوى رؤوس الأموال المحلية, لكن ومع العملات الرقمية (التي تقوم أساساً على تقنية سلسلة الكتل) يصبح من السهل على الشركة تجاوز الحدود والحصول على احتياجاتها التمويلية من جميع أنحاء العالم بدون قيود.
من ناحية أخرى يواجه صغار المستثمرين صعوبة في الدخول إلى أسواق الأوراق المالية (خصوصاً الأسواق المنظمة) نظراً لأحجام التعاملات والرسوم المفروضة فيها, كما أن الفرص الاستثمارية المتاحة في كل سوق على حدة (بديهياً) تكون أقل من تلك الفرص فيما لو كان بالإمكان الاستثمار في أي ورقة مالية حول العالم, ويمكن أن نضيف أن الاستثمار في الأسواق المالية الأجنبية ربما يكون صعباً في ظل عدم تكامل الأسواق المالية حول العالم. وعلى العكس من ذلك تتيح أسواق العملات الرقمية امكانية الاستثمار في تشكيلة واسعة جداً من العملات (في حال تم اعتبارها أداة مالية) ومن أي مكان في العالم.
أضف إلى ذلك الحاجة إلى الوسطاء الماليين وتعقيد عملية توزيع العوائد على المساهمين وطول الفترة الزمنية لذلك وهي امور يمكن حلها بسهولة من خلال عقود ذكية مخصصة لذلك.
من الجدير ذكره أن شركة Bankera تعتبر الأولى التي اتخذت خطوات فعلية في هذا المجال من خلال اصدار عملة رقمية (تحمل سمات المشاركة في العوائد) للحصول على التمويلات وتجاوز الحدود الجغرافية, وقد أشارت الشركة إلى أن عوائد المساهمين سيتم توزيعها عبر العقود الذكية.
حقيقة لا يمكننا حصر الفوائد الجمة التي يمكن لتقنية سلسلة الكتل أن تقدمها للبشرية, ولكن وبشكل عام يمكن القول بأنه بالإمكان الوصول إلى حلول ناجعة لأي مشكلة نعاصرها في الوقت الحاضر من خلال هذه التقنية التي تتمتع بسمات ومزايا تؤهلها لذلك كما رأينا في عرضنا السابق.