لن أتحدث في هذا المقال عن مصاعب ومتاعب التداول والمضاربة في أسواق المال فقد تحدثنا عن ذلك في ألف مقال قبل كذلك.. تحدثنا عن صعوبة تحقيق أرباح مستمرة في ظل تذبذب الأسعار الذي يصعب معها التكهن بحركاته واتجاهاته على الدوام.. تحدثنا عن النظرة البائسة عندما نقوم بتقييم أنفسنا بأننا لا نصلح للتداول ولا نصلح لأي شئ تقريباً عندما نفشل في تحقيق النتائج المرجوة.. تحدثنا عن الشعور بالوحدة الذي يصيب معظم المتداولين لأن هذا العمل غالباً ما يكون عمل فردي حتى في المؤسسات المالية الكبرى.. وبالتأكيد تحدثنا عن عدم فهم العالم لطريقة تفكيرنا عندما نستمر في المضاربة بهذه الأسواق بدون تحقيق أي فائدة تذكر..
كل هذا مفهوم بالنسبة لك كمتداول في هذه الأسواق وأتمنى إن شاء الله أن يتغير كل ذلك بتغير نتائج عملك وإصرارك في هذا العمل الشاق.. لو قمت بالتفكير معي للحظة في سبب إستمرارك بهذا العمل بالرغم من عدم ظهور نتائج ايجابية حتى الآن قد يتبادر إلى ذهنك بأن السبب في بقائك في السوق هو ببساطة الأمل أليس كذلك؟ الأمل في الوصول لاستيراتيجية مربحة ولطريقة مجربة تمكنك من تحقيق هذا الحلم.. وهذا بالطبع صحيح ولكنه ليس السبب الوحيد..
هناك سبب قوي يدفعنا للإستمرار في هذا السوق وهو سبب حلاوته وسعادتنا به.. هذا السبب هو شعورنا المستمر بالخطر عند التداول!
إنتظر معي لحظة وحاول أن تفهم ما أقصده هنا.. الكثير من رجال الأعمال يتعرضون لضربات موجعه في أعمالهم وقد يضطرون إلى إغلاق مؤسساتهم ومحلاتهم وصرف موظفيهم ثم تجده يمتنع عن القبول بوظيفة دائمة وراتب ثابت.. لماذا؟ لأنه وبالرغم من حاجته للمال إلا أنه سيفتقد طعم المغامرة والمخاطرة التي كان يشعر بها سابقاً عندما كان مدير نفسه.. عندما كانت قرارته تشكل سبباً رئيسياً في صعود أو هبوط شركته بعد توفيق الله سبحانه وتعالى.. المال وبالرغم من أهميته للجميع لا يمكنه أن يعوض عن الشعور بالمغامرة والمخاطرة المحفوفة لكل صاحب عمل حر..
وعندما نقارن ذلك بالمضاربين في الأسواق المالية نجد أنهم قد بدأوا بالشعور بهذا الطعم الغائب عنهم لأن أغلبيتهم يعملون في وظائف تحت إمرة أشخاص آخرين.. المضاربة في السوق فتحت لهم أبواب جديدة ليشعروا بهذا الشعور الجميل عندما يكون قراره بتنفيذ الصفقة وبحجمها وبزمنها هو القرار الأهم في تحقيق المال أو خسارته.. أما المضارب القادر على تحقيق أرباح ولله الحمد وهو ما زال على رأس وظيفته لا يستطيع أن يقارن بين الشعور الجميل بإستلام أرباحه من صفقاته في السوق مع راتبه الثابت الذي يحصل عليه من شركته لتنفيذ أعمال روتينية اصبح يقوم بها بدون تفكير..
الحياة بلا مخاطرة خالية وباهتة وليس لا طعم أو رائحة.. الحياة بدون خطر تصبح روتينية ومملة لدرجة الموت.. الراتب الثابت وبالرغم من أهميته لتسديد الفواتير وتوفير المأكل والمشرب والمسكن إلا أنه غير قادر على أن نشعر معه بالسعادة.. ولكن هذا يختلف بشكل لا يقارن عندما نحقق صفقة رابحة وننظر لها أنها توفيق من الله أولاً وأنها نتيجة لقرار صائب إتخذناه لتنفيذ هذه الصفقة ثانياً.. هذا الربح الذي كان من الممكن أن ينتهي بخسارة العربون الذي قمنا بالمراهنة به لنرى نتيجة هذا القرار يضفي عليه رونق رائع.. لذلك نشاهد الكثير ينشر على وسائل التواصل الإجتماعي شارتات انتهت بوصول السعر للمستوى المستهدف ونستطيع أن نقرأ مع هذه التغريدات سعادة هؤلاء المضاربين بهذه النتيجة.. وهذا أمر سيصبح غريب حقاً لو رأينا أحد يغرد وهو يضع قسيمة الراتب أنها تم إيداعها في حسابه البنكي اليوم.. لماذا؟ لأن الكل يعلم بأن هذا الراتب قادم في هذا اليوم المحدد وبقيمة محددة يعرفها هذا الشخص سابقاً.. وهذا يلغي عنصر المخاطرة من المعادلة.
يقول الفلاسفة والحكماء لا يوجد شئ يستحق أن تنتظره في حياتك إن لم يكن مقترن بمخاطرة سابقة.. وبالتأكيد لا يوجد أي شئ يمكن أن يزيدك ثراءاً أو سمعة أو زيادة للفرص إن لم يكن مقترن بمخاطرة أولاً.. تخيل معي أنك ترغب بإشهار إسمك بين الجمهور بأنك محلل فني جيد.. إذاً أنت ستقوم بإلقاء محاضرة أمام الجمهور لمدة ساعة أو اكثر تتحدث عن أمر محدد يخص التحليل الفني.. ولكن هناك مشكلة واحدة فقط.. أنت لم تقم سابقاً بالوقوف أمام جمهور يتكون من مائة شخص أو اكثر للحديث أمامهم.. أمر شيق أليس كذلك؟ ولكنه مرعب لحد الموت.. كيف يمكن لشخص أن يحقق هذا الهدف بدون المخاطرة بأن يكون هو الهدف الرئيسي لهذه الندوة والمتحدث الرسمي أمام الجميع.. ماذا لو شعر بالخوف والرهبة قبل أن يبدأ.. الأدهى من ذلك ماذا لو شعر بالخوف والرهبة بعد أن يبدأ فعلياً.. هل ترى عزيزي القارئ.. لا يوجد أي أمر قد يكون جيد لك سواءاً مالياً أو إجتماعياً بدون وجود مخاطرة أصلاً..
هل تشعر بالخطر عند الذهاب لزيارة أصدقائك ولعب الورق معهم؟ لا طبعاً.. هل يوجد أي فائدة مالية او اجتماعية بعمل ذلك؟ لا طبعاً..
هل تشعر بالخطر عند تشغيل التلفاز لمشاهدة برنامجك المفضل؟ لا طبعاً.. هل يوجد أي فائدة مالية او اجتماعية بعمل ذلك؟ لا طبعاً..
هل تشعر بالخطر عند تنزيل الفيديوهات التي وصلتك على الواتس اب لمشاهدتها؟ لا طبعاً.. هل يوجد أي فائدة مالية او اجتماعية بعمل ذلك؟ لا طبعاً..
أي أمر فيه مصلحة واضحة لك لا بد أن يرتبط بدرجة من المخاطرة.. وكلما قمت بزيادة هذه المخاطرة كلما ازدادت فرص الربح.. ولكن في حال وصلت في المقال إلى هذا المكان فيجب أن أقوم بتنبيهك إلى ثلاث أمور مهمة خاصة بالمخاطرة.. وهي:
1- المخاطرة المحسوبة افضل:
نعم المخاطرة أمر رائع وجميل كما أشرنا سابقاً ولكن المضارب الحصيف سيستخدم مخاطرة محسوبة وليس مخاطرة مجنونة قبل أن يقوم بتحديد وقت وحجم الصفقة عند تنفيذها.. وهذا يعني اختياره للمكان المناسب ولحجم الصفقة المناسب.. المخاطرة المحسوبة تحميك من التردد من جهة ومن الإستهتار برأس المال من جهة أخرى.
2- المخاطرة ليست المقامرة:
لعلك سمعت سابقاً عبارة الكازينو دائماً يربح Casino always wins ولو قمت بدراسة الأسباب ستجد أن الكازينو يقوم بحساب مخاطرته مسبقاً ويدعمها رياضياً لتصب في صالحه عكس المقامر الزائر لتلك الأماكن والذي يعتمد على حظه فقط.. وفي بعض الأوقات يعتمد على ذكاؤه الذي لا يعلم أحد بوجوده إلا المقامر نفسه.
المضارب الذي يقوم بحساب مخاطرته ويبتعد عن المقامرة في السوق يعرف كيف يضع الأمور في صالحه دائماً وذلك من خلال حساب حجم صفقاته ومعامل ارتباط صفقاته بعضها ببعض وأمور أخرى كثيرة لا تقتصر فقط على تحليل فني أو أساسي.. عكس المضارب الذي يحمل عقلية يا تصيب يا تخيب.
3- إشعر بالخطر والخوف ولكن قم بها على أية حال:
هناك عبارة رائعة تقول إشعر بالخوف وقم بها على أية حال Feel the fear and do it any way وسر جمال هذه العبارة هو أن المضارب الحكيم لا يحاول أن يتخلص من الخوف أو الخطر أثناء التداول لأنه يعلم أن هذا الأمر شبه مستحيل ولكنه يقوم بعمل ما يلزم وتنفيذ صفقاته بالرغم من عدم شعوره احياناً بالراحة لفعل ذلك.. عكس المضارب المتردد الذي دائماً ما يقوم بترديد عبارة ماذا لو what if
الختام:
في يوم من الأيام وأتمنى أن يكون قريب سيبدأ الشعور بالمخاطرة يتناقص مع الوقت خصوصاً عندما تبدأ بتحقيق أرباح جيدة في السوق وهذا بالرغم من أنه سيكون مفيد مالياً لك ولكنك ستفتقد عندها للشعور بالخطر والخوف عند التداول والذي كنت تشعر به سابقاً وبشكل يومي عند التداول.. ستبدأ بسماع مضاربين آخرين يخبرونك بمخاوفهم من المضاربة وخوفهم من الخسارة وتستغربهم من شعورهم هذا.. وستقوم بإخبارهم بأن يستمروا بما يقومون به وأن هذا الشعور سيزول مع الوقت..
اكبر مخاطرة يمكن أن تقوم بها في حياتك والتي بالتأكيد ستندم عليها لاحقاً هو الإنسحاب من منتصف الطريق ورمي المنديل.. هذه هي المخاطرة التي يجب أن تشعر معها برعب عند التفكير بها لدرجة تجعلك غير قادر على النوم بشكل طبيعي..
وتذكر قول صاحبنا تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية عندما قال " إذا كنت تعبر الجحيم فإستمر بالمشي If you go through hell, Keep going "
وبالتوفيق لك في هذا المشوار الرائع عزيزي المخاطر..
أقصد المتداول..