خلال الأسبوع الماضي، التقيت بعض المستوردين الكبار، على هامش إحدى التجمعات الاقتصادية الشهيرة في العاصمة المصرية القاهرة، فشكى معظمهم عجزاً مزمناً منذ عدة أشهر عن ملء مخازنهم بشكل كامل، فضلاً عن خسائرهم الفادحة نتيجة لتعطل بضائعهم في الموانئ المختلفة، ولا شك، أن أعطال الإمدادات ستفرز تضخماً في أسعار السلع لمدة عام على الأقل، وهذا خبر صادم، ومرهق للمستهلكين.
يتذكر الأجداد، ممن هم في سن السبعين، "تقنين الأغذية" الذي جرى العمل به في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وحتى سنة 1954، وهو إجراء تقشفي لا تعلم عنه الأجيال الجديدة التي تعودت على رفاهية انتقال البضائع الأجنبية في أي وقت تريده، ولهذا، فإن أزمة اضطراب الموانئ تمثل بالنسبة لهم حدثاً تاريخياً.
خفض الطقس المعتدل والمحاصيل الوفيرة بين 2016 و2020 أسعار السلع الغذائية إلى حد كبير، لكن، منذ تعطل سلاسل الإمدادات انكشف المستور، فقد قفزت الأسعار بشكل درامي، مع تصادم مشكلات إنتاج الغذاء مع ارتفاع الطلب، وثبت للجميع أن التعافي من الجائحة أقوى مما كان يتوقعه معظم الاقتصاديين، وأدى التحول من فلسفة الشراء حسب الحاجة إلى فلسفة الشراء الفائض إلى تنامي الطلب العالمي بشكل أعلى من المتوقع.
تعد القهوة، وهي المشروب الأكثر شهرة في وجبة الإفطار، واحدة من السلع الأكثر تضررا من تعطل الحاويات، إذ يمثل الشحن مشكلة مؤثرة على سلسلة الإمدادات، فقد ارتفعت أسعار الحاويات بنحو 280 في المائة عن العام الماضي، ومن المتوقع إنهاء معظم عقود التحوط التي تملكها المحامص الكبرى نهاية العام الجاري، وبالتالي، سترتفع أسعار القهوة على العملاء العام المقبل، ولا شك أن زيادة التكاليف على المزارعين سيجعل من الصعب عليهم الاستفادة من الأسعار المرتفعة وزيادة الإمدادات.
قبيل الجائحة، كان بعض الاقتصاديين يجادل بأن العولمة جعلت الاقتصاد العالمي أكثر استقراراً، معتبرين أن سهولة التبادلات التجارية تضمن وسائل الراحة للشعوب المتطلعة للرفاهية، فإذا فشلت دولة ما في الحصول على بضائعها من دولة أخرى، استطاعت تدبيره من مكان آخر، لكن، ما يحدث الآن هو العكس تماماً، إذ يضع استمرار اختناقات سلاسل الإمدادات دورة أعمال الأسواق أكثر اضطراباً.
لا شك أن تحميل الوباء القاتل مسؤولية الأزمة الراهنة تعد نظرة قاصرة، إذ ترجع جذور المشكلة للركود الحاد الذي ضرب الأسواق عقب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، فقد شهدت تلك السنوات تراجعاً في العائدات، ونقصاً في الاستثمارات، ومع تقادم البنية التحتية وعجزها الفاضح، حتى في بعض أكابر الدول، تضاءلت قدرة المصدرين على التوريد في الوقت المحدد، ولتجاوز العاصفة، يتطلب الأمر إنفاق المليارات على تحديث الموانئ وأساطيل الشحن، والتوسع في استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.