ابتداءاً من كتاب "الإفلاس (1995) الإنهيار القادم لأمريكا" لهاري فيجي وجيرالد سوانسون ومروراً بأكذوبة الإنهيار المستندة إلى فكرة (الشميتا Shemitah) من العهد التوراتي التي أطلقها جيف بيرويك في عام 2015 واستفاض في تشويهها ونسج القصص الخيالية حولها، ولا ُننكر أنه استقطب كمية هائلة من السُذَّج والمؤمنين بنظرية الإنهيار المتكررة والمملة، وهؤلاء ليسوا الأوائل ولن يكونوا آخر من يطرح مثل هذه الأفكار الساذجة وسيجدون كما وجدوا سابقاً جمعاً غفيراً من السُذَّج (وحتى المتخصصين منهم) الذين سيرددون ترنيمة الفشل المستمرة والتي لا نزال نسمعها حتى اللحظة وصدَّعت رؤوسنا من خلال رسائل الواتساب وعبر وسائل التواصل الاجتماعي.
دعونا ننظر للموضوع من زاوية علمية:
بدون شك أن الركود هو جزء حتمي ولا يتجزأ من دورة الأعمال، ومن الطبيعي أن يصاب به الاقتصاد من فترة إلى أخرى، وكما نرى حالياً أن الأغلبية من المحللين ووسائل الإعلام والسوشيال ميديا تتداول الحديث عن الركود، وفي بعض الحالات الأكثر قتامة سيناريو أزمات كاسحة في عام 2020.
- الأزمات لا تستأذن!
أكبر الأزمات اعتباراً من الـ Great Depression ومروراً بأزمة عام 2000 وانتهاءاً بأزمة عام 2008 كلها أتت دون استأذان، والقاسم المشترك بينها جميعاً أن العالم كان يعيش نشوة الطفرة في كل شيء، وقلة قليلة حذرت وبشكل علمي من أزمة قادمة، وطبعاً لم يستمع إليهم أحد ولم تكن أصوات هؤلاء ترتقي لمستوى الحدث، بل على العكس كان الجميع بمن فيهم وسائل الإعلام تعيش حالة النشوة الاقتصادية.
اليوم الصورة معاكسة، الجميع يتحدث عن الأزمة منذ عام 2015 وحتى اليوم مستندين إلى تحليلات واستنتاجات تدور حول نظرية المؤامرة وهم لا زالوا في انتظارها.
لهؤلاء أقول:
نحن نعيش حالة الركود بالفعل منذ عام 2008، والاقتصاد العالمي يعاني حقيقةً من تبعات أزمة عام 2008، وسيكون من الطبيعي أن يأخذ وقتاً للتعافي من تبعات الأزمة ولكن:
هل إنهارت أمريكا؟!
هل إنهار العالم؟!
الجواب: "لا" ببساطة لأننا لازلنا نعيش أزمة 2008 ولم نخرج منها، وهذا الطرح تناوله العديد من الاقتصاديين ومن بينهم (بول كروغمان) في أعقاب أزمة 2008، وأكدوا على أن مرحلة التعافي بعيدة، وبالفعل لو ركزنا في تفاصيل الكساد العظيم عام 1929 لوجدنا أن مرحلة التعافي استمرت لأكثر من عقدين من الزمن وعادت بعدها أمريكا والعالم الصناعي أقوى من مرحلة ما قبل الأزمة.
وعلى الجانب الآخر من العالم اليابان سجلت رسمياً دخولها في الركود عدة مرات منذ نهاية عام 2015، هل إنهارت اليابان؟!
فكما أن الساعة المتوقفة تكون صحيحة مرتين في اليوم فإن هؤلاء يتحضرون لتراجع حاد في أسواق الأسهم الأمريكية حتى يقولوا أنهم كانوا على حق!.
بدون شك الاقتصاد الأمريكي يعيش شكلاً من أشكال الركود (وهذا أمر طبيعي)، في المقابل مؤشرات أسواق الأسهم الأمريكية ارتفعت إلى مستويات غير مسبوقة منذ انتخاب ترامب وحتى اليوم مدعومة كما سبق وذكرنا في عدة مقالات بالاقتطاعات الضريبية التي حققت وفورات نقدية للشركات الأمريكية، والتي أعيد ضخ أغلبها ضمن عمليات إعادة الشراء (Buybacks)، ولم تستغل في عمليات إعادة الاستثمار التوسعي الرأسمالي في مختلف النشاطات الاقتصادية المنتجة، وهو سبب جوهري من وجهة نظري في عدم وصول التضخم المستهدف من طرف الفيدرالي إلى المستويات التحفيزية المطلوبة عند 2% وذلك لأن التضخم تركز في أسواق الأسهم دوناً عن قطاعات الاستثمار الأخرى.
بدون شك أن الحرب التجارية مع الصين لها دورها في جانب الركود، وتراجع المؤشرالصناعي الأمريكي ISM Manufacturing إلى أدنى مستوى منذ 4 سنوات هو واحد من مؤشراته، ولكن هل من الممكن أن يواجه العالم مرحلة الكساد (أي الحالة الأعمق من الركود)؟
أنا أستبعد هذا السيناريو لأن سياسة التحفيز ستفرض نفسها عبر المرحلة القادمة، وبالتالي لابد أن يكون هناك نقطة تحول للسيولة في مرحلة ما بشكل أو بآخر باتجاه رفع معدل الإنفاق الاستهلاكي، وخاصةً مع حالة الترقب والتخوف من أن مؤشرات أسواق الأسهم قد وصلت إلى مستويات لا تستحق معها المزيد من عمليات الشراء من قِبل الأفراد وصناديق الاستثمار وخاصةً مع ارتفاع الـ P/E بشكل مبالغ فيه.
هل من الممكن أن تتعرض أسواق الأسهم للتراجع الحاد؟
"نعم" وذلك ضمن الطرح السابق وقد استفضنا في تحليل الأسباب في مقال نشرناه سابقاً بتاريخ 17-06-2019 بعنوان "النتيجة الحتمية لنموذج ريغان/ ترامب الاقتصادي!"، وطبعاً هنا لسنا بوارد الحديث عن تراجعات بأقل أو تساوي 10%؛ لأن هذا الأمر أصبح طبيعياً وتكرر كثيراً خلال فترة ولاية ترامب ولكنه لم يأخذ بعداً كارثياً وذلك لأن المؤشرات عند مستويات غير مسبوقة ونسبة الـ 10% انخفاض لم تشكل بالنسبة لمعدل ارتفاعها أي حالة غير استثنائية، وخاصةً فيما لو أخذنا بعين الاعتبار النهج الاقتصادي المتشابه بين حقبة ريغان وترامب، وأن الداوجونز في عهد ريغان ارتفع 147.3% وإنهار في الاثنين الأسود بمعدل 22%، ولكن لم تعش أمريكا والعالم حالة الكساد والتسونامي التي يحلو للبعض من محبي الخيال العلمي ونظرية المؤامرة أن يكرروها.
خلاصة الأمر:
- هل ستنهار الأسواق؟
الجواب: "لا" لأن الشركات باقية حتى لو شهدنا حالة تراجع الأسواق بمعدلات استثنائية، وحتى لو عادت المؤشرات إلى مستويات ما قبل ترامب، وبالتالي سيكون ما حدث بالفعل هو أن فوائض ضرائب الشركات ستتبخر، وستبقى البنوك المركزية بأدواتها النقدية.
- هل سينهار الاقتصاد الأمريكي والأوروبي كما يصوره رعاة الـ (Propaganda)؟
الجواب: "لا".
- كيف نستفيد من مرحلة "الركود" المترافقة مع سياسة التحفيز والتسهيل النقدي؟
كنت ولا أزال مع سياسة الشراء للملاذ الآمن (ين-ذهب-فضة) في ظل المعطيات الحالية.
وأخيراً وليس آخراً، الاقتصاديات الكبرى والبنوك المركزية لديها ما يكفي من الأدمغة الاقتصادية والمحترفة للتعامل مع كل مراحل دورة الأعمال وليست بحاجة للمقاطع التي يتم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي لبعض المدَّعين الذين ينذرون بالأزمات و يعرضون "خدماتهم وتخاريفهم" لحلها وهدفهم الحقيقي لفت الانتباه فقط، وكالعادة وكما كان مصير غيرهم من رعاة نظرية المؤامرة الذين سبقوهم، سيكون مصيرهم "مزبلة التاريخ الاقتصادية".