اليورو بيد من؟ ومن هي القبضة التي تحكم تحركاته؟ هل هو المركزي الأوروبي الذي يحدد السياسات النقدية الأوروبية؟ أم المركزي الأمريكي المؤثر الأقوى على سياسات العالم المالية؟
سبب تراجع اليورو المستمر منذ أشهر لم يعد اليوم حديث الساعة، بل أصبح السؤال اليومي "أين هو القاع؟ ". البنوك الاستثمارية وبيوت التحليل تهافتت كعاتدها لإعطاء المستويات، فدويتشه بنك يقول 0.85 دولار لكل يورو بنهاية عام 2017 (أي نحو 20% أقل من السعر الحالي)، وها هو غولدمان ساكس يقول 0.9 لنفس الفترة. وقد يبدو باركليز أكثر واقعية بقليل حيث يتوقع مستوى التعادل 1.00 بنهاية العام الحالي. لكن أكثرهم تفاؤلا هو UBS السويسري حيث يتوقع 1.15 بنهاية العام الحالي، وعلى ما يبدو أن UBS لا يزال تحت تأثير "المصيبة" التي أحدثها رب عمله (المركزي السويسري) في الأسواق في 15 يناير والتي بات الجميع يعرفها.
العبارة السابقة تعني بالنسبة للمستثمرين وجوب عدم الوقوف في وجه "المسار" أو trend الهابط لأصل معين أو عملة معينة، فالنتيجة ستكون جرح يدك أو قطعها لأن السكين أو "المسار" ستستمر في الهبوط ولن تستطيع التقاطها. المخطط البياني لليورو مقابل الدولار يوضح ما تعنيه العبارة السابقة ، حيث وبنظرة بسيطة وبتحليل أولي بسيط نقول السقوط الحر سيستمر وقد نلامس المستويات التاريخية الدنيا عند 0.82 دولار لكل يورو. وبحسب التحليل الفني للمخطط أدناه، فلا يوجد أي مستويات دعم حقيقية قد توقف هذا الانهيار. فيجب الانتظار لنرى ما سيقوله التحليل الأساسي.
لكن من الذي أسقط السكين في البداية؟ ولماذا لم تتوقف أو بعبارة أخرى هل يستطيع أحد إيقافها؟ وهل أصبح اليورو حاله كحال عملات الدول الناشئة التي تتحرك بضعة نقاط مئوية في الأسبوع؟ القصة بدأت من الفيدرالي الذي نقل الكرة لملعب المركزي الأوروبي الذي بدوره "سجل الهدف المطلوب"!
التسلسل الزمني للانهيار – 10 أشهر سوداء لليورو
بدأ البنك الاحتياطي الفيدرالي في يناير 2014 بتقليص برنامجه الثالث للتيسير الكمي QE3 بمقدار عشرة مليارات دولار شهريا، وبدأت تظهر نتائج هذا التقليص بعد أشهر قليلة. اليورو كان في أفضل أيامه خلال مايو 2014 عندما لامس مستوى 1.4 أمام الدولار. لكن التراجع بدأ منذ ذلك الحين ولم نعد لهذا المستوى "وقد لا نعود أبدا".
تخفيف عرض الدولار في الأسواق بالإضافة إلى تحسن البيانات الاقتصادية الأميركية وتراجع ملحوظ في معدل البطالة ساهمت في تلميع الدولار والضغط على اليورو، ليكون بعدها إعلان الفيدرالي بقرب رفع الفائدة بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير! فزادت حدة التراجع لينهي اليورو عامه عند تراجع 14% من مستويات مايو.
في هذه الأثناء أصبح وضع أوروبا من سيئ إلى أسوأ مع نمو اقتصادي شبه متوقف ثم دخول الأزمة اليونانية مرحلتها الثانية وفوز المعارضة "المعارِضة للتقشف" بالانتخابات وبدء التهديد بخروجها من منظومة العملة الموحدة. ليأتي بعدها المركزي الأوروبي ونجمه "ماريو دراغي" بأهم إعلان في تاريخ اليورو "التيسير الكمي" وتعهده بشراء أكثر من تريليون يورو من السندات الحكومية بواقع 60 مليار يورو شهريا. وعندها خرج اليورو من مرحلة التراجع ليدخل في مرحلة الانهيار.. حيث خسر منذ بداية العام حتى تاريخ كتابة هذا المقال نحو 13% ولتصبح الخسائر منذ المستوى الأعلى في مايو نحو 26% .
من يستطيع السيطرة على اليورو؟
في حال بقاء العوامل السابق ذكرها كما هي، فالجواب على هذا السؤال برأيي هو: لا أحد! والتراجع مستمر إلى ما شاء الله. ولكن من جهة أخرى فإن أي تغيير ولو كان بسيطا في أحد العوامل قد يسبب عكسا للاتجاه بشكل مفاجىء وسيكون من السرعة بحيث لن يستطيع أي محلل أن يتنبأ به.
لنقارن بين ما احتسبته الأسواق حتى اللحظة وما لم تحتسبه. الدولار الاميركي استمر بمساره الهابط لعدة سنوات مع سياسة التيسير الكمي من قبل الفيدرالي، وكان يسجل انهيارا مع كل إعلان برنامج جديد (Q1, Q2, Q3) لا سيما مع عدم الحديث عن رفع أسعار الفائدة على الإطلاق، إلا أن تراجع الدولار كان يحدث بشكل تدريجي ولم يفقد أمام اليورو سوى 15% على مدار سنوات التيسير الكمي الأميركي. وعلى ما يبدو فإن الأسواق احتسبت هذه الـ 15% بالنسبة لليورو في أول شهرين من إعلان التيسير الكمي الأوروبي والذي سيستمر نحو عام ونصف العام.
ولكن عندما فُقدت السيطرة على اليورو بدأ الجميع بالحديث عن السيناريو السيء بإمكانية استمرار الانهيار ولم يتحدث أحد عن فوائد اليورو المنخفض لأوروبا وبالتحديد للمصدرين الألمان والفرنسيين والإيطاليين الذين يعيشون "أحلى" أيامهم حاليا.أما بالنسبة للمركزي الأوروبي فليس لديه ما يقدمه الآن سوى الإفصاح عن كيفية سير العمل ببرنامج التيسير، بالإضافة إلى تعديل بعض نسب النمو المستهدفة التي قد ترفع اليورو بشكل بسيط. وقد قرأت جملة أعجبتني مع أن الجميع قد نسيها أو تناساها: "اليورو المنخفض هو بالضبط ما وصفه الطبيب سابقا للاقتصاد الأوروبي" وبرأيي هذا سيحد من خسائر اليورو عاجلا أم آجلا.
لننتقل إلى الجهة الأخرى من الأطلسي لنرى هل بإمكان الفيدرالي السيطرة على انهيار اليورو. ولأجيب عن هذا السؤال سأستعرض بعض البيانات الاقتصادية الأميركية الهامة من مبيعات التجزئة والإنتاج الصناعي وتعديل أرقام النمو الاقتصادي نحو الأسفل. فعلى سبيل المثال نحن لم نشهد ثلاثة اشهر متتالية من مبيعات تجزئة سالبة في الولايات المتحدة منذ عام 2012 ،فهل يقدر الفيدرالي على تحمّل تكلفة رفع أسعار الفائدة في اجتماع يونيو المقبل (كما يرى المحللون) وكما سبق وألمح؟. الأسواق احتسبت أو "شبه" احتسبت رفع الفائدة من قبل الفيدرالي في يونيو أو على أبعد تقدير هذا العام. فماذا لو أجّل الفيدرالي هذا الرفع؟ مالذي سيحدث؟ أعتقد أن ذلك سيكون بمثابة الضغط على الزناد ليبدأ مسلسل طويل من التراجع للدولار، وبالتالي ارتفاع في اليورو.
الخلاصة
للإجابة على السؤال المطروح في عنوان المقال نقول: على المدى الطويل المركزي الأوروبي ودراغي يسيطران على اليورو وسيقودانه للارتفاع مع تحسن الأرقام الاقتصادية. ولكن على المدى القصير فليس الأمر بيد الأوروبيين. إنه بيد الفيدرالي، فكلمة واحدة من العزيزة "جانيت يلين" تقول فيها "سنؤجل" أو جملة تقول فيها "الوقت مبكر لرفع الفائدة" ستُغير مسار اليورو في لحظة واحدة.