من محمود رضا مراد
قرية العور (المنيا) (مصر) (رويترز) - تدفع الأوضاع الاقتصادية الصعبة في مصر الكثير من الشباب المحبط للمغامرة والسفر إلى ليبيا المجاورة بحثا عن فرصة عمل رغم ما تشهده من فوضى وقتال بين جماعات مسلحة تسعى لبسط نفوذها فضلا عن تعرض 27 مصريا للخطف هناك.
والتصدي لأزمة البطالة في مصر حيث يشكل من هم دون 25 عاما نصف عدد السكان الآخذ في التزايد أحد أصعب التحديات التي تواجه الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ويحكم السيسي بلدا شهد الإطاحة برئيسين خلال السنوات الأربع الماضية. وكان غضب الشباب جراء البطالة من أهم العوامل التي أشعلت الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بحسني مبارك من السلطة عام 2011.
وإلى جانب البطالة لا يزال الحصول على مسكن والزواج من الأمور العسيرة على الشباب غير القادر على كسب العيش حتى في ظل حكم السيسي.
وتسبب الاضطرابات السياسية والاجتماعية منذ الإطاحة بمبارك في رحيل المستثمرين الأجانب والسياح عن مصر أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان بنحو 90 مليون نسمة. وفاقم ذلك من أزمة البطالة إذ وصل معدل البطالة إلى أكثر من 13 بالمئة في الوقت الراهن بعدما كان يبلغ 8.9 قبل الانتفاضة.
وسافر آلاف المصريين إلى ليبيا بحثا عن عمل منذ 2011 رغم تحذيرات الحكومة من السفر إلى واحدة من أخطر دول المنطقة.
ويمكن مشاهدتهم يعملون في مواقع البناء والمصانع والمطاعم والمحلات في مختلف المدن ليبيا التي انزلقت إلى الفوضى منذ الانتفاضة التي أطاحت بمعمر القذافي قبل أربع سنوات وحيث تتنازع حكومتان على السلطة.
وفي قرية العور التابعة لمحافظة المنيا بصعيد مصر (على بعد نحو 200 كيلومتر جنوبي القاهرة) يسهل معرفة لماذا يخاطر الشبان المصريون بحياتهم.
فالقرية بلا طرق ممهدة وتفتقر لمياه الشرب النظيفة والرعاية الصحية الملائمة وهي نفس الظروف المعيشية التي كانت تدفع الشباب للانضمام للجماعات المتشددة في السابق.
وكان رجال عاطلون يجلسون بجوار قناة ري (ترعة) مليئة بالقاذورات والمياه الراكدة.
وكان صموئيل ألهم يعيش مع زوجته وأطفاله الثلاثة في غرفة واحدة بمنزل أسمنتي من طابق واحد يعيش فيه أيضا ثلاثة من أشقائه وأطفالهم ووالديه المسنين.
ومثله ككثير من المصريين كان يحلم بأن يقدر يوما ما على شراء قطعة أرض صغيرة لبناء منزل مستقل لأسرته الصغيرة.
وسافر الرجل البالغ من العمر 30 عاما السفر إلى ليبيا للعمل سباكا لكن قراره كان باهظ الثمن. فقد خطف على يد مسلحين خارج مدينة سرت الليبية وهو في طريقه عودته لمصر برا لقضاء عيد الميلاد مع أسرته.
* "الناس تاكل منين؟"
وقالت أمه وهي تبكي بحرارة "أنا عايزة ابني حبيبي يجيلي. حرام عليكم ده كان طالع يشتغل مش طالع يسرق ولا طالع يعمل حاجة وحشة.. عشان يربي عياله."
"ده هو سلاحي يا ولاد ... ده هو اللي نافعنا يا ولاد."
وصموئيل واحد من 27 عاملا مصريا يشتغلون بمهن متواضعة ويتلقون رواتب ضئيلة وتعرضوا للخطف في ليبيا. وبدأت عمليات الخطف منذ أغسطس آب واستمرت حتى بدايات هذا الشهر حين خطف 13 مرة واحدة.
وجميع المخطوفين مسيحيون. وربما كانت ديانتهم سببا في تعريضهم لخطر أكبر من مواطنيهم المسلمين. وأعلن متشددون موالون لتنظيم الدولة الإسلامية المتشدد -الذي استولى على مساحات واسعة في سوريا والعراق- مسؤوليتهم عن خطف من وصفوهم "بالأسرى الصليبيين".
ومحافظة المنيا التي تتبعها قرية العور من المعاقل التقليدية لجماعة الإخوان المسلمين التي يشن السيسي حملة صارمة ضدها منذ أعلن حين كان وزيرا للدفاع عزل الرئيس محمد مرسي المنتمي لها عام 2013 إثر احتجاجات شعبية حاشدة على حكمه.
وأعلنت الحكومة عزمها ضخ استثمارات وتنفيذ خطط للتنمية في المنيا التي كانت يوما ما أيضا معقلا للمتشددين الإسلاميين في التسعينات خلال عهد مبارك. وقالت أيضا إن خططها تشمل باقي مناطق الصعيد بعد عقود من التهميش والإهمال.
لكن السيارات التي تحمل لوحات معدنية ليبية على الطرق القريبة من العور تظل تذكرة للقرارات الصعبة التي تفرض نفسها على سكان المنطقة. كما يحمل أحد محلات البقالة في بلدة قريبة من العور اسم الجماهيرية وهو الوصف الذي كان يطلقه القذافي على نظامه السياسي.
ولم يكن بمقدور أبانوب عياد وهو في أوائل العشرينات من العمر تلبية احتياجات أسرته التي يعولها ناهيك عن توفير المال لشراء أو بناء شقة ليتزوج فيها. وينفق أبانوب على والديه المسنين وأخوه وأخته الطالبين في الجامعية.
وجرب أبانوب حظه في ليبيا كعامل بناء رغم حصوله على شهادة الثانوية الفنية.
وتوقفت الأموال التي يرسلها لأسرته فجأة في وقت سابق هذا الشهر عندما اقتحم متشددون مسكنه في سرت وخطفوه 12 عاملا مصريا آخر.
وقالت والدته عزيزة يونان في منزل الأسرة المتواضع "مفيش شغل في البلد يساعد... الناس تصرف منين وتأكل منين وتتعلم منين؟"
وأضافت "البلد مش مساعداهم ولا نصفاهم... يعملوا إيه؟ الناس تعمل إيه؟ اللي قادر عايش واللي مش قادر يأكل طوب."
*رحلة للمجهول
وقال السيسي في كلمة بالمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس الأسبوع الماضي إن مصر تستهدف خفض معدل البطالة إلى عشرة بالمئة بحلول عام 2020. وأعلنت حكومته عن مشروعات بنية تحتية عملاقة مثل مشروح حفر قناة السويس الجديدة ومشاريع كبرى لبناء طرق وجسور بهدف توفير وظائف.
لكن هذه التعهدات لم تنعش الآمال بعد في قرى مثل العور.
وقال بشرى شحاتة عن ابنه الذي لا يزال يبحث عن عمل رغم تخرجه من الجامعة قبل تسع سنوات "حاولت كل المحاولات عشان أعين (أوظف) ابني سواء كان تعيين رسمي أو تعيين خاص مش قادر."
وأضاف مرددا نفس الشكوى التي يرددها المصريون في عهد كل حاكم يتولى السلطة في البلاد "كل اللي بيتعين.. بيتعين بوسايط (محسوبية)."
وشارك أكثر من 100 شخص من أقارب العمال المخطوفين في وقفة احتجاجية صامتة أمام مكتب الأمم المتحدة في القاهرة الأسبوع الماضي بعد اجتماعهم مع مسؤولين في وزارة الخارجية المصرية.
وبينما كانوا يحملون صور لأحبابهم حث الأهالي الحكومة على بذل المزيد لتأمين إطلاق سراحهم. وقال رجل وعيناه مغروقتان بالدموع إنه يتطلع لأي معلومة عن ابنه وأبناء شقيقه الثلاثة المخطوفين في ليبيا.
ويقول المسؤولون إنهم يبذلون قصارى جهدهم لإعادة العمال سالمين.
لكن في مكان آخر بالمدينة كان مصريون ينتظرون لشراء تذاكر سفر في مكتب الخطوط الجوية الليبية بالقاهرة.
وكان أحد هؤلاء عامل طلاء أثاث من محافظة الدقهلية بدلتا النيل عاد إلى مصر من ليبيا قبل خمسة أشهر بحثا عن فرصة عمل تبعده عن الخطر. لكنه قرر العودة لليبيا قائلا إنه لا يملك أي خيار آخر بعد فشله في الحصول على عمل.
وقالت السلطات الليبية إن رجلين مدججين بالسلاح اقتحما يوم الثلاثاء فندقا فخما في العاصمة طرابلس يتردد عليه كبار المسؤولين الليبيين والوفود الزائرة ليقتلا تسعة أشخاص على الأقل بينهم أجانب قبل أن يفجرا نفسيهما.
وقال عامل الطلاء لرويترز قبل أن يهرع إلى شباك حجز التذاكر لدى سماع النداء على رقمه "احنا بنروح وربنا بقى اللي بيسترها."
(شارك في التغطية أولف ليسينج في طرابلس- تحرير سيف الدين حمدان)