بدأ الرئيس الصيني شي جين بينغ ولايته الرئاسية الثالثة العام الجاري برسالة واضحة، ومفادها أنَّ دولته ستبذل قصارى جهدها لتضاهي الولايات المتحدة الأميركية في مجال التكنولوجيا أو تتفوق عليها، حتى بالرغم من جهود واشنطن “لتقييدها”.
يستخدم شي ومساعدوه الجدد ما يدعى بنظام “الأمة كلها”، أي حشد الموارد والشركات من أرجاء الدولة- بما في ذلك تريليونات الدولارات- لدفع عجلة البحث العلمي والتطوير.
وتزايدت الحاجة الملحة لهذا الجهد الكبير مع تصعيد واشنطن للقيود التجارية والاستثمارية والقوائم السوداء.
كما يرى شي، الذي تفوق على كل من سبقه في التشديد على الأمن القومي، أنَّ الاعتماد على الذات في التقنيات فائقة الأهمية ضرورة حتمية، لكنَّ مواجهة المشكلة بزيادة الإنفاق لم تؤتِ بثمارها حتى الآن، إذ يمكن للحكومة إهدار قدر كبير من المال المستثمر في شركات ومبادرات لم تحقق أهدافها، مما قد يزعزع استقرار ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
1- ما هي استراتيجية “الأمة كلها”؟
تنبع هذه الاستراتيجية من تقليد التخطيط المركزي للدولة الذي يستمر برغم تحول الصين الشيوعية إلى اقتصاد السوق بشكل كبير.
ووصف رئيس الوزراء السابق لي كي تشيانغ تلك الاستراتيجية، أثناء الدورة الحالية لمجلس الشعب الصيني، بأنَّها تشجع رأس المال الخاص على التعاون مع كبريات المبادرات الحكومية الهادفة لعلاج مواطن الضعف.
على سبيل المثال، أرست المدن وشركات الاتصالات التي تملكها الدولة عقوداً مغرية بقيمة 1.4 تريليون دولار لشركات التكنولوجيا العملاقة الخاصة مثل “هواوي تكنولوجيز” و”هيكفيجن ديجيتال تكنولوجي” في 2020 لمد شبكات الجيل الخامس اللاسلكية، وتركيب الكاميرات والمستشعرات، وتطوير برمجيات الذكاء الاصطناعي، مما من شأنه تعزيز المركبات ذاتية القيادة، والمصانع المؤتمتة، والمراقبة الجماعية.
وبعد ذلك بعام، تضمّنت الخطة الاقتصادية الخمسية للصين مزيداً من التعهدات بتعزيز البحوث في الرقائق الحديثة والمجالات الناشئة مثل المركبات التي تعمل بالهيدروجين والتكنولوجيا الحيوية.
كما وجّه شي الحزب الشيوعي لزيادة سيطرته على خطة العلوم والتكنولوجيا لتحسين تنسيق جهود الجهات المعنية. كما أسس الحزب في مجلس الشعب الصيني لجنة مركزية للتقنية لتطوير الإشراف، ومنح وزارة العلوم والتكنولوجيا صلاحيات موسعة للمساعدة على قيادة الابتكار الجوهري، وأسس الحزب كذلك وكالة قومية لمراقبة البيانات وتطويرها باعتبارها مورداً استراتيجياً.
2- هل اقتربت الصين من الولايات المتحدة؟
إنَّ طموح الصين من أجل أن تصبح منافساً تقنياً حقيقياً للولايات المتحدة تواجهه تحديات كبيرة، أبرزها هو عدم تحكم الدولة في إمداداتها من أشباه الموصلات التي تشكّل عصب الإلكترونيات الحديثة. وأنفق الاقتصاد الصيني في 2021 أكثر من 400 مليار دولار على شراء الرقائق المعتمدة بشكل كبير على التكنولوجيا الغربية، وهو أكثر مما أنفقه على النفط.
لكنَّ الصين تتقدّم بوتيرة سريعة في مجالات أخرى، فتقرير “مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار” (ITIF)، وهي مجموعة بحثية محايدة مقرها في واشنطن، الذي صدر في يناير استنتج أنَّ الصين تتحوّل سريعاً من مجرد مُقلدة إلى مبتكرة في المجالات المتقدمة من الحواسيب الفائقة والمركبات الكهربائية إلى الهواتف الذكية، لتهدد حصة أميركا السوقية وأمنها القومي.
كما أنجزت الصين محطتها الفضائية العام الماضي، وصرحت “وكالة استخبارات الدفاع الأميركية” في مارس أنَّ الصين كانت في المقدمة بمجال تطوير الأسلحة فرط الصوتية.
3- كيف تحاول الصين اللحاق بأميركا؟
إلى جانب كل ما سبق، تسعى الصين بشكل متزامن للتقدم في عدة مجالات، وهو ما نتج عنه إنفاق تريليونات الدولارات على عدة برامج، مثل:
العمالقة الصغار
تقدّم الحكومة دعماً إلى الشركات الناشئة في القطاعات ذات الأهمية الاستراتيجية من خلال تخفيضات ضريبية وحوافز مالية أخرى، وأطلقت اسم “العمالقة الصغار” على نحو 9 آلاف شركة منذ 2019، ومن المتوقَّع وصول عدد “العمالقة الصغار” إلى 10 آلاف شركة بحلول 2025. اكتسب البرنامج أهمية جديدة بعد تحرّك شي في 2021 لقمع شركات الإنترنت العملاقة المتزايد نفوذها، ومن ضمنها “علي بابا غروب هولدينغ” و”تينسنت هولدينغز ليمتد”، بالإضافة إلى رؤسائها المليارديرات. ويعني وصف شركة بأنَّها من “العمالقة الصغار” حصولها على شكل من التأييد الرسمي والحماية المحتملة من عمليات القمع التنظيمية.
صنع في الصين 2025
الخطة الصناعية التي أُعلن عنها في 2015 وسط ضجة كبيرة حددت 10 مجالات تطمح الصين لأن تصبح منافساً عالمياً فيها بحلول 2025، وتهيمن عليها في القرن الحالي. وتضم هذه المجالات على سبيل المثال علم الروبوتات، والطاقة الخضراء، والفضاء الجوي، وهي مجالات تتمتع بالأولوية القصوى، لكن في السنوات الماضية توقف المسؤولون عن الترويج للبرنامج، إذ أصبح واضحاً أنَّ العقوبات الأميركية تزيد من صعوبة تحقيق الهدف بحلول 2025.
البنية التحتية الجديدة
تعتزم الصين تحديث بنيتها التحتية الرقمية لتقديم دفعة اقتصادية على غرار الاستثمار السابق في الطرق والسكك الحديدية فائقة السرعة والمطارات. كما تُعزز قوة شبكات الطاقة من خلال محطات توزيع الكهرباء فائقة الجهد ومحطات شحن المركبات الكهربائية.
خطة شين شوانغ
يقصد بها خطة “ابتكار تطبيقات تكنولوجيا المعلومات”، وتهدف إلى رعاية البدائل المحلية لتكنولوجيا المعلومات الأجنبية، خاصة في القطاعات الحساسة مثل الخدمات المصرفية والإدارة الحكومية. ويقول بعض الباحثين إنَّ حجم هذه السوق قد يبلغ 125 مليار دولار تقتصر على شركات التكنولوجيا الصينية بحلول 2025، على حساب الشركات الأجنبية مثل “آي بي إم” و”مايكروسوفت”.
العملة الرقمية
أطلق بنك الشعب الصيني عملة افتراضية تعرف باسم “اليوان الرقمي” لخفض رسوم المدفوعات وتسهيل إجرائها. ويحمّل المستهلكون والشركات محفظة إلكترونية على جوالهم ويقومون بملئها باليوان الافتراضي من حسابهم في أي بنك تجاري. وأجريت التجارب في مدن مختلفة وخلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية 2022 في بكين على هذه العملات الرقمية، لكن ما زال أغلب الصينيين يعتمدون بشكل كبير على تطبيقات الجوال مثل “علي باي” (Alipay) و”وي تشات باي” في مدفوعاتهم اليومية.
مجمعات العلوم
أسست مدن مثل بكين ونانجينغ مجمعات للعلوم يمكن فيها للشركات المؤهلة الحصول على تخفيضات ضريبية وحوافز أخرى، كما يمكن للبلديات أن تغطي رواتب المهندسين المطلوبين، مع تعويض شركات رأس المال الجريء في حال خسارتها المال بالاستثمارات.
4- كيف تسير هذه الخطط؟
تنخرط الولايات المتحدة فيما تسميه “منافسة استراتيجية” مع الصين، لتفرض قيوداً ليس على الرقائق فقط؛ بل ومعدات تصنيعها وبرمجيات تصميمها التي يمكن تصديرها إلى العملاء الصينيين أيضاً. كما ضمّت الولايات المتحدة دولاً حليفة لها في هذا المسعى، إذ فرض الموردون مثل “أيه إس إم إل هولدينغ” الهولندية و”نيكون كورب” اليابانية حظراً تكنولوجياً أيضاً.
صرّح مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، أنَّ الولايات المتحدة وحلفاءها يرغبون في الحفاظ على “أكبر قدر ممكن من الريادة” في التقنيات المهمة “لفرض تكاليف على الخصوم، بل وإضعاف قدراتهم في أرض المعركة”. في الوقت نفسه، حققت الاستثمارات الضخمة للحكومة الصينية نجاحات ضئيلة، في حين تكافح الشركات العملاقة بالدولة، ومنها “هواوي” و”سيميكوندوكتور مانيوفاكتشرينغ إنترناشيونال كورب” و”يانغتسي ميموري تكنولوجيز”، لتطوير منتجاتها.
وشجب شي ما أسماها سياسة “الاحتواء والقمع” الأميركية. فقد استهدفت موجة تحقيقات مكافحة الفساد في العام الماضي الأشخاص المرتبطين بأداة الاستثمار السرية للدولة، المعروفة باسم “الصندوق الكبير”، ويرى بعضهم أنَّ تلك الموجة أثارت تحفظات المسؤولين.
يشاع أنَّ الصين تبحث خلال العام الجاري عن طرق بديلة لدعم الصناعة، مثل خفض تكلفة المواد. مع ذلك؛ لم يتضح ما إذا كانت الصين مستعدة للتخلي تماماً عن النهج القائم على الاستثمار الضخم الذي نجح في تطوير قطاع التصنيع على مدى العقود الماضية. تمثل شركة “يانغتسي” الفرصة الأفضل للصين لصنع رقائق الذاكرة للهواتف الذكية والحواسيب، وحصلت الشركة على تعهد بأن تمنحها دعماً رأسمالياً حكومياً إضافياً بقيمة 1.9 مليار دولار في العام الجاري ليساعدها على زيادة قدرتها الإنتاجية.
5- ما آفاق ذلك؟
بالطبع؛ تضاربت الإشارات كعادتها في نظام الصين الغامض:
باو فان، المصرفي الشهير المتخصص في القطاع التكنولوجي “اختفى” في فبراير كجزء مما وصف بعد ذلك بأنَّه تحقيق حكومي.
وبعدها بشهر، أشارت التقارير إلى إطلاق سراح طرف رئيسي في التمويل الأولي لقطاع الرقائق المحلي في الصين، تشن داتونغ، بعد 8 شهور من اعتقاله.
أعلن رئيس الوزراء الجديد لي تشيانغ “دعمه الثابت” للقطاع الخاص، وكشف البنك المركزي عن أنَّه يستكشف طرقاً لدعم شركات التقنية، وجاء ذلك بعد أن فرضت الصين قيوداً أكبر على مجموعة “علي بابا”، من خلال استحواذها على ما يسمى بـ”السهم الذهبي” في وحدتها للعمل الإعلامي.
وأدى ذلك إلى كشف المجموعة في مارس عن خطة تقسيمها إلى 6 شركات، والمرجح أن تُدرِج العديد من شركات “علي بابا” في الأسواق العامة.
بنهاية مارس، فتحت الصين جبهة جديدة في المعركة بإعلان تقييم للأمن السيبراني للواردات من أكبر مصنّعي رقائق الذاكرة في الولايات المتحدة، “مايكرون تكنولوجي”.
كما أشار تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” في أبريل إلى أنَّ الجهات التنظيمية الصينية أبطأت تقييماتها للاستحواذات المقترحة من شركات صنع الرقائق الأميركية، بما فيها “إنتل كورب” و”ماكس لينير”. إذ تحتاج الشركات لموافقة بكين على الاندماج إذا حققت قدراً محدداً من الإيرادات من الصين.
اقتصاد الشرق