من داليا نعمة
دمشق (رويترز) - شّدت السورية هاجر صالح رضيع ابنتها إلى صدرها في إحدى دور الأيتام في تركيا بعدما تعرفت عليه من وحمة بارزة عند ذقنه وسط صرخات ارتياح ودموع فرح محت آلام رحلة بحث عنه استمرت أشهرا بعد مقتل والديه أثناء هربهما من ويلات الحرب الأهلية الطاحنة.
وتسلط حكاية الجدة هاجر (47 عاما) الضوء على المحنة المروعة لآلاف الأطفال السوريين المفقودين وعائلاتهم بعد أسابيع طويلة مضنية تعقبت خلالها السيدة الثكلى أثر حفيدها الوحيد خارج سوريا، تلتها شهور انتظار شاقة قبل أن تتمكن من إثبات نسبه وإعادته معها إلى أرض سوريا.
كان جعفر في الشهر الثالث من عمره فقط عندما قرر والده عماد عزوز (25 عاما) ووالدته أمينة صالح (23 عاما) في أوائل العام الماضي الفرار من منزلهما في ضاحية السيدة زينب المتاخمة للجبهة عند أطراف العاصمة دمشق والانطلاق بحثا عن حياة كريمة لعائلتهما الصغيرة في الخارج.
جمع الشابان المتزوجان حديثا مدخراتهما القليلة ودفعا بها إلى مهرب ليعبر بهم الحدود إلى داخل تركيا من منطقة تسيطر عليها فصائل كردية. لم يتمكن عماد وزوجته من السفر بطريقة شرعية كما كانا يأملان نظرا لكونهما لاجئين فلسطينيين ولا يملكان وثائق سفر صالحة برغم إقامة عائلتيهما في سوريا منذ عقود.
قبل محاولة عبور الحدود في يناير كانون الثاني 2016، أرسلت أمينة إلى والدتها صورة لها مع طفلها لم تكن تعرف أنها ستكون الأخيرة. كانت تبتسم فيها بملامح قلقة أمام الكاميرا أثناء استعدادها للرحلة مرتدية معطفا ثقيلا وغطاء رأس أسود وتحتضن بين ذراعيها جعفر بوجهه الزهري الصغير وثيابه الصوفي الأصفر اللون.
بعد ذلك بساعات قليلة فتح حرس الحدود التركي، الذي يخوض قتالا ضد جماعات مسلحة كردية في المنطقة الحدودية بشمال شرق سوريا، النار على قافلة تضم عشرات الهاربين من الموت في بلادهم. ولاقت أمينة وزوجها مصيرهما المحتوم على الفور.
نجا الرضيع جعفر من الحادث بأعجوبة إذ حماه والده بجسده، لينقله بعد ذلك الناجون من الاشتباك مع ما وجدوه من وثائق بين أمتعة الوالدين ويسلموه إلى رعاية قاض في مدينة ماردين التركية الحدودية ويمضوا في طريقهم إلى المجهول. لم يفتهم قبل ذلك تعزية الجدة هاجر في خسارتها وتزويدها برقم واسم القاضي المسؤول عن طفل ابنتها.
بدأت فصول محنة هاجر منذ تلك اللحظة. حصلت على معلومات عما حدث من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) التي تحرت عن مصير جعفر وعائلته من باقي المنظمات الدولية والسلطات التركية، وقدم لها موظفوها في دمشق وبيروت المساعدة بالتعاون مع مكتب مفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين في تركيا من أجل استعادة جعفر وإثبات هويته وصلة القربى بينهما.
دموع هاجر، التي كانت ترتدي ثياب الحداد السوداء، الغزيرة غالبا ما كانت توقفها عن استعادة الأحداث فتسارع إلى لملمة شتات نفسها معتذرة بالقول "ما زال لدي ابنان، لكن أمينة كانت ابنتي الوحيدة وصديقتي وكاتمة أسراري."
*أطفال مفقودون
قالت منظمة يونيسف لرويترز في مارس آذار إنها وثقت وجود 650 حالة لأطفال انفصلوا عن عائلاتهم في عام 2016 فقط مرجحة أن يكون عدد الحالات المماثلة غير الموثقة أكبر بكثير.
وقتل مئات الآلاف من السوريين وشرد حوالي نصف السكان بما يشمل أعدادا كبيرة من الأطفال منذ بداية الحرب الأهلية في عام 2011.
بعد مرور أسابيع واتصالات مستمرة بين يونيسف واللجنة الدولية للصليب الأحمر والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين في كل من لبنان وتركيا، نجحت مساعي هاجر في الحصول على تصريح سفر إلى لبنان للحصول على التأشيرة التركية من السفارة في بيروت والسفر إلى اسطنبول.
وقالت هاجر في مركز يونيسف في دمشق، بينما كان جعفر بعينيه الواسعتين الخضراوين وثيابه الأنيقة يناضل للإفلات من حضن جدته ليعبث بكل ما تصل إليه يداه "ابنتي كانت تزورني في الحلم كل ليلة وتترجاني ألاقي ابنها وأربيه."
كان جعفر، الذي يبلغ من العمر الآن 16 شهرا، يفلت أحيانا بعد الاستسلام لإغراءات اللعب بعيدا ليعود سريعا إلى حضن جدته التي تعلق بالقول "كان في الأول يشتاق لرفقاته بالميتم بس صار متعلق فيني كتير."
لكن رحلة هاجر إلى تركيا كادت تنتهي قبل أن تبدأ، إذ قامت محاولة الانقلاب العسكري في تركيا في يوليو تموز وأغلقت جميع المطارات بسبب ذلك قبيل سفرها بيوم واحد.
ومع قرب انتهاء أجل تأشيرة الدخول الاستثنائية التي منحت لها في لبنان لمدة أسبوع أصيبت هاجر بانهيار حاد سببته هواجسها بأن يغير مرور الوقت ملامح الطفل بدرجة تحول دون تعرفها عليه. ولم يتحسن وضعها النفسي إلا بعد اتصالات على أعلى المستويات بين المنظمات الدولية في سوريا وتركيا وتحسن الوضع تدريجيا لتتمكن الجدة من السفر أخيرا إلى تركيا بعد خمسة أيام.
وفي اسطنبول لم يسعف هاجر جهلها بأي لغة أجنبية وعدم سفرها خارج دمشق مطلقا طوال حياتها، فتاهت على مدى خمس ساعات في مطار أتاتورك قبل أن يعثر عليها موظفو مفوضية اللاجئين بمساعدة شاب عراقي كان يجلس قربها.
ومن اسطنبول انتقلت هاجر إلى ماردين في رحلة بالحافلة استمرت 16 ساعة لا يعزيها فيها إلا أمل اللقاء بآخر ذكرى بقيت لها من ابنتها.
*معا من جديد
ما إن شاهدت هاجر حفيدها جعفر في دار أيتام تشوشوك إيفليري سيتيسي مودولوجو في ماردين حتى تعرفت عليه فورا من الوحمة البارزة على ذقنه وملامحه التي لم تتغير عن آخر صورة رأته فيها مع أمه.
وقالت "اشتكى والده من الوحمة قبل يومين من سفرهم. وقال لي ابنتك لم تقل لي لأجلب لها كل ما اشتهته. وطلعت الوحمة بوجه الصبي.
"عندما شفت جعفر بالميتم حملته وصرت أصرخ وأبكي وبعدين أغمي علي. لما صحيت ضميتو مرة تانية وصرت أبكي وهوي ما خاف أو بكي. بس يطلع فيني وبعدين صار يمسح دموعي بإيديه."
لكن محنة هاجر لم تنته بلقاء الحفيد الضائع فقد كان عليها أن تثبت نسبه وصلة قرابته لها بإجراء فحص الحمض النووي بينما كان الطقس يصبح أكثر صقيعا ومالها القليل ينفذ يوما بعد يوم. وزاد من تعقد مهمتها عمليات التطهير التي أجرتها الحكومة التركية في القضاء عقب محاولة الانقلاب الفاشلة.
وأضافت هاجر "كل ما كان يستلم قاضي الملف يروح بالتطهير اللي صار بعد الانقلاب. وانتظرت تلات اشهر حتى قدرنا نطلع النتيجة وآخد إذن قضائي بأني أرجع جعفر معي على البيت."
وتابعت تقول وهي تبكي من جديد "بعرف وين قبور بنتي وزوجها. كل اللي ماتوا بالحادث اندفنوا بمكان واحد بس ما في أسماء على القبور. بعرف بنتي وين مدفونة بس ما قدرت زورها. خفت يصرلي شي وما يبقى لجعفر حدن."
وفي طريق العودة إلى سوريا في ديسمبر كانون الأول، أبى الحظ السيء أن يترك هاجر فودّعها بعاصفة ثلجية أقعدت الطائرات في مطار أتاتورك لأيام أنهكت الجدة والحفيد ليصلا إلى سوريا أخيرا ويستقبلا بالاحتفالات وإطلاق الرصاص في شارعهم بمنطقة السيدة زينب.
وقالت هاجر وهي تبتسم وتمسح دموعها في الوقت نفسه "جعفر مليان حياة ومشاغب كبير. بس الله يقدرني أربيه أحسن تربية واعلمه أحسن علم.. بعرف إنو الله حيمد بعمري ويعطيني الصحة كرماله وبحسنة ابنتي."
(تحرير مصطفى صالح)