كنا قد ناقشنا قبل أشهر احتمال تأثر الاقتصاد العالمي خلال عام 2015 بعاملين رئيسيين، وهما التراجع الحاد في أسعار السلع، النفط على وجه الخصوص، والتحركات الكبيرة في سوق أسعار الصرف (أنظر تحليلنا الاقتصادي النفط والعملات والسياسات النقدية المتباينة: الاقتصاد العالمي في عام 2015). وبينما يؤدي انخفاض أسعار السلع إلى تحويل الدخل من البلدان المصدرة للسلع إلى تلك المستوردة لها، تؤدي حركة أسعار الصرف إلى نقل النمو من البلدان التي تشهد قيمة عملاتها ارتفاعاً نحو تلك التي تتجه قيمة عملاتها نحو الانخفاض. وبالتالي، فإن لهذين العاملين أهمية بالغة في التأثير على توزيع الدخل والنمو وفي تحديد الرابحين والخاسرين في الاقتصاد العالمي. لذلك، فإن النظر إلى الاقتصاد العالمي من هذه الزاوية يفيد كثيراً في تحليل قرار الصين الأخير القاضي بخفض قيمة عملتها والتداعيات العالمية المترتبة على هذا القرار.
ارتفعت قيمة الرينمينبي مقابل أغلب العملات العالمية خلال الأشهر القليلة الماضية نظرا إلى ارتباطه نوع ما بالدولار الأمريكي. وألحق هذا الارتفاع ضرراً بالصادرات الصينية، مما وضع الصين في صف الخاسرين جراء التحركات الكبيرة في أسعار الصرف في العالم. وهو ما دفع السلطات الصينية لفك ارتباط الرينمينبي بالدولار الأمريكي (أنظر تحليلنا الاقتصادي الصين تصطاد ثلاثة عصافير بحجر "اليوان" ). ومن المنتظر ألا ينحصر تأثير هذا القرار في الصين فقط بل سيتعداها على الأرجح ليشمل الاقتصاد العالمي ككل، خصوصاً عبر أسعار السلع وحركة العملات.
تراجعت أسعار السلع بعيد خفض الصين لقيمة عملتها. وانخفضت أسعار النفط بنسبة 6% منذ 11 أغسطس الجاري، بينما انخفض سعر النحاس بنسبة 5% خلال نفس الفترة. كما تراجع مؤشر تومسون رويترز / مكتب أبحاث السلع (سي آر بي) (وهو مقياس واسع يشمل السلع الزراعية والمعادن الثمينة والمعادن الصناعية والطاقة) بنسبة 4% منذ خفض قيمة الرينمينبي. وفسر المستثمرون قرار الخفض هذا بكونه إشارة ضعف في الاقتصاد الصيني. وبالنظر إلى تأثير النشاط الصناعي الصيني على أسعار السلع خلال السنوات الأخيرة (كما هو موضح في الرسم البياني)، فإن هذا التراجع ليس مفاجئاً. ولكن في حال نجح خفض قيمة الرينمينبي في تحفيز الصادرات الصينية وبالتالي النمو، فقد يؤدي ذلك إلى رفع أسعار السلع مستقبلا. لذلك، فإن التراجع في أسعار السلع الناجم عن خفض الصين لقيمة عملتها قد لا يستمر إلا لفترة قصيرة فقط.
المصادر: بلومبيرغ والمكتب الوطني الصيني للإحصاء
وتحليلات قسم الاقتصاد في QNB
وبطبيعة الحال، يمكن أن تنخفض أسعار السلع. بل قد ذكرنا مؤخراً أن أسعار النفط يُرجح أن تظل منخفضة حتى عام 2016 (انظر تحليلنا الاقتصادي أسعار النفط مرشّحة للبقاء على انخفاض لفترة أطول). لكن هذا الانخفاض يمكن أن يحدث لأسباب غير مرتبطة بتخفيض قيمة العملة الصينية.
وقد أدى خفض قيمة العملة الصينية إلى حدوث تراجع في قيمة مجموعة من العملات، تشمل عملات بلدان غنية بالسلع الأساسية مثل أستراليا وإندونيسيا وجنوب أفريقيا ودول أمريكا اللاتينية، وعملات بلدان آسيوية مجاورة للصين ولديها تعاملات تجارية ضخمة معها، مثل تايوان وتايلاند وكوريا الجنوبية. ويمكن لهذه المجموعة الأخيرة من البلدان أن تلجأ لتدابير لإضعاف قيمة عملاتها أكثر للحفاظ على القدرة التنافسية لصادراتها. وقد وسعت فيتنام بالفعل نطاق تداول عملتها وأتبعت ذلك بخفض لقيمة العملة نسبته 1,0% بعد أسبوع. وقد تقوم الدول الآسيوية الأخرى، لا سيما تلك التي بها معدلات تضخم منخفضة ونمو اقتصادي متعثر، مثل الفلبين وتايوان، بتخفيض أسعار الفائدة، مما قد يؤدي إلى تراجع قيمة عملات تلك الدول.
وفي المحصلة، فإن تخفيض الصين لقيمة عملتها لا يعني فقط أنها قد انضمت الآن إلى سباق العملات العالمية نحو القاع، بل يعني أيضا أنها تحث الدول الأخرى على أن تحذو حذوها. وهذا يعني أنه باستثناء الجنيه الاسترليني، فإن الدولار الأمريكي هو العملة الرئيسية الوحيدة تقريباً التي ترتفع قيمتها حالياً. إن قوة الدولار الأمريكي قد تضر بالصادرات الأمريكية، وبالتالي فإنها قد تؤثر سلبياً على نمو الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة كما فعلت على نحو مؤلم في الربع الأول من هذا العام (انظر تقريرنا الاقتصادي ثمانية أسباب وراء تباطؤ الاقتصاد الأمريكي في الربع الأول). بالتضافر مع الانخفاض في أسعار السلع الأساسية التي يتوقع لها أن تستمر حتى عام 2016، يمكن لقوة الدولار الأمريكي أن تؤدي أيضاً إلى خفض معدل التضخم في الولايات المتحدة من مستوياته المنخفضة حاليا. وبينما لازال المشاركون في السوق يتوقعون قيام بنك الاحتياطي الأمريكي برفع أسعار الفائدة لمرة واحدة على الأقل خلال هذا العام. فأن انخفاض معدلات النمو وتباطؤ معدل التضخم بسبب قوة الدولار قد يدفع بنك الاحتياطي الفيدرالي لإعادة النظر في موقفه.