أعلن البنك المركزي الأوروبي عن برنامج موسع للتيسير الكمي في 22 يناير. فابتداء من مارس 2015، سيقوم البنك بشراء ما قيمته 60 مليار يورو من السندات السيادية وسندات القطاع الخاص بمنطقة اليورو على أساس شهري. وستستمر عمليات الشراء هذه حتى شهر سبتمبر 2016، إلا أن البرنامج يمكن أن يصبح مفتوح الأجل حتى يُلحظ "تغير مستمر في مسار التضخم". وبعمليات الشراء واسعة النطاق للسندات السيادية، يكون البنك المركزي الأوروبي قد انضم (متأخراً) للبنوك المركزية الرئيسية الثلاثة الأخرى (في اليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، والتي كانت قد لجأت إلي التيسير الكمي بعد أن لم يعد هناك مجالاً لخفض معدلات الفائدة أكثر من المستويات الحالية.
إذا أردنا تلخيص السياسة النقدية في هدف واحد، فإن ذلك الهدف سيتمثل في ضمان عدم تحول الصدمات المؤقتة المرتبطة بالتضخم إلى مشاكل دائمة. فالبنوك المركزية لا يمكنها أن تفعل شيئاً لمنع منتجي النفط في الولايات المتحدة من إغراق السوق ودفع أسعار النفط العالمية للتراجع. غير أنها يمكن أن تمنع تحول الانخفاض في أسعار النفط إلى دوامة من انكماش الأسعار. ويكمن مفتاح ذلك في ضمان استقرار التوقعات المتربطة بالتضخم. فإذا كان الناس يتوقعون للتضخم أن يعود قريباً إلى نسبة معينة (فلنقل "أدنى، ولكن قريبة من 2٪")، فإنهم سيتجاهلون مسألة انخفاض أسعار النفط عند تحديد أسعار السلع والأجور الأخرى. ومن شأن ذلك أن يضمن زوال الصدمة الناتجة عن انخفاض أسعار النفط في وقت وجيز. ومن ناحية أخرى، إذا اعتقد الناس أن البنوك المركزية غير راغبة أو غير قادرة على الحفاظ على معدلات التضخم تحت السيطرة، فإن صدمة أسعار النفط يمكن أن تمتد لتشمل انخفاض أسعار السلع والأجور الأخرى، ويمكن أن تتحول هذه الصدمة في نهاية المطاف إلى انكماش دائم في الأسعار (انظر إلى تقريرنا الاقتصادي الصادر بتاريخ 25 يناير).
تهاوي أسعار النفط يزعزع توقعات
التضخم في منطقة اليورو
المصادر: بلومبرغ وتحليلات مجموعة QNB
وكانت هناك أدلة على أن الانخفاض الحاد الأخير في أسعار النفط قد يزعزع توقعات التضخم في منطقة اليورو. فبحسب أدوات قياس التضخم التي تعتمد على السوق، فإن توقعات التضخم هوت بشكل حاد منذ النصف الثاني من عام 2014. ويشير ذلك إلى أن المشاركين في عمليات السوق يعتقدون أن تأثير انخفاض أسعار النفط سوف يصبح أمراً دائماً، حيث أن البنك المركزي الأوروبي إما غير راغب أو غير قادر على الاستجابة. ويبدو أن الخطوة الأخيرة من جانب البنك المركزي الأوروبي قد خففت جزئياً من هذا الشعور في الوقت الراهن.
كيف يمكن لهذه الخطوة الأخيرة من جانب البنك المركزي الأوروبي أن تحول دون حدوث انكماش في الأسعار يمتد لفترة طويلة؟ توجد ثلاث عوامل هامة للإجابة على هذا التساؤل. أولاً، إن إطلاق برنامج التيسير الكمي يعتبر بمثابة إشارة إلى أن البنك المركزي الأوروبي يأخذ مسألة تحقيق معدل التضخم المستهدف على محمل الجد، وهو على أتم الاستعداد للقيام بكل ما يلزم لتحقيق ذلك الهدف. كما يشير التحسن الذي طرأ على توقعات التضخم بُعيد الإعلان عن برنامج التيسير الكمي إلى أن البنك المركزي الأوروبي ربما يكون قد حقق بعض النجاح في استعادة ثقة السوق. ثانياً، من خلال خفضه لعوائد السندات الحكومية، فإن البنك المركزي الأوروبي ربما يحث البنوك على زيادة القروض المقدمة للشركات والأسر، الأمر الذي من شأنه أن يعزز الطلب الكلي والتضخم. وأخيراً، سيعمل توسيع البنك المركزي الأوربي للقاعدة النقدية عبر خفض سعر صرف اليورو مقابل العملات الأخرى على زيادة أسعار السلع والخدمات المستوردة. ومن بين جميع هذه العوامل، يُرجح أن يكون العامل الثالث والأخير هو الأكثر تأثير اً على التضخم. فقد انخفضت قيمة اليورو مقابل الدولار الأمريكي بنسبة 3,0٪ منذ إعلان البنك المركزي الأوربي عن التيسير الكمي.
ومع ذلك، هناك مخاطر تحيق باستراتيجية البنك المركزي الأوروبي. أولاً، تعتبر عوائد السندات في منطقة اليورو مسبقاً منخفضةً للغاية. وبالتالي يُرجح أن تكون أي دفعة ناتجة عن التيسير الكمي ذات تأثير محدود، لأن من شأنها أن تزيد بضع نقاط أساس في حركة عائدات السندات. ثانياً، من المرجح أن تستجيب البنوك الأوربية بشكل أقل للتيسير الكمي مقارنة بنظيراتها الأمريكية، حيث أن مديونية الشركات الأوروبية مرتفعة للغاية، وبالتالي فإنها من المستبعد أن تستفيد من أسعار الفائدة المنخفضة. ثالثاً، من خلال جعل مخاطر التخلف عن السداد متبادلة في جميع أنحاء منطقة اليورو، يكون البنك المركزي الأوروبي قد توغل في غياهيب السياسة المالية، الأمر الذي قد يؤدي إلى عمليات انتقال لرؤوس الأموال عبر الحدود، على الأرجح من شمال أوروبا إلى الدول الهامشية المضطربة. وقد يقلل ذلك أيضاً من محفزات البلدان الهامشية لإجراء الإصلاحات اللازمة لزيادة النمو والحد من عبء ديونها.
وبالإضافة إلى ذلك، تُظهر التجربة التاريخية الأخيرة أن للتيسير الكمي آثار كبيرة عابرة للحدود. وقد بدأت هذه الأثار تظهر بالفعل، حتى قبل صدور قرار البنك المركزي الأوروبي، حيث تخلى البنك الوطني السويسري عن الحد الأدنى لسعر صرف عملته، كما خفض البنك المركزي الدنماركي أسعار الفائدة إلى المنطقة السلبية بغية الحفاظ على ربط سعر صرف عملته باليورو. وقد تشهد الأسواق الناشئة بعض التدفقات الرأسمالية الإضافية من منطقة اليورو في إطار البحث عن عوائد أكبر. إلا أن الأمر المختلف هذه المرة هو توقعات السوق التي تشير إلى زيادة محتملة في أسعار الفائدة في الولايات المتحدة في وقت لاحق من هذا العام. وبالتالي، يُرجح أن يتجه القدر الأكبر من تدفقات رأس المال القادمة من منطقة اليورو نحو الولايات المتحدة، مع استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل جميع العملات الرئيسية الأخرى.
ختاماً، يمكن القول بأن تأثير السياسة النقدية يمكن أن يكون قوياً على المدى القصير، ولكن من غير المرجح أن تؤدي إلى تفادي المأزق في منطقة اليورو على المدى الطويل. ربما يكون البنك المركزي الأوروبي قد نجح في الحيلولة دون وقوع انكماش في الأسعار يستمر لفترات طويلة، ولكن ذلك ليس كافياً لتحقيق النمو المستدام. وكما أكد ماريو دراغي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، في عدة مناسبات، فإن الإصلاحات الهيكلية في أسواق العمل والمنتجات في منطقة اليورو ضرورية لتحقيق انتعاش مستدام في منطقة اليورو. وقد تقبل البنك المركزي الأوروبي فكرة التعايش مع التيسير الكمي في الوقت الراهن، ولكن تنفيذ الإصلاحات الهيكلية اللازمة أمر يعود للحكومات.