لا يهم إذا ما أعلنت السعودية عن تخفيض الإنتاج مقدار مليون برميل حين تجتمع الأوبك في ديسمبر، أو حتى مليوني برميل. ما يهم حقًا الآن هو ما إذا كان السوق ما زال محتفظًا بإيمانه بتنفيذ المملكة ما تقطعه من وعود.
في الواقع، ربما تكون مشكلة السعودية الحقيقية هي: "عجز في الثقة" منذ فصل الصيف، وتزعزعت الثقة بسبب عدد من الخطوات الخاطئة في الإنتاج، مقابل ما تعهد به أكبر مصدر للنفط الخام في العالم.
يجد متداولو النفط السوق غارقًا الآن في النفط الخام بسبب ارتفاع إنتاج النفط الصخري الأمريكي، وكان المتداولون في مرحلة سابقة يعتمدون فقط على الرياض فيما يتعلق بحجم العرض المتواجد في السوق. وأشارت بعض التحليلات منذ بضعة أسابيع إلى أن وزير الطاقة السعودي له الكلمة النهائية في سوق النفط، ولكن ذلك لم يتحقق في الفترة ما بين عامي 2014-2017، عندما تسبب النفط الصخري في تخمة للسوق.
وذكرت أحد المذكرات التي تصدرها Energy Aspects، المعروفة بتبصرها في أساسيات السوق وسياسات تداول الطاقة، أن عملية التصفية التاريخية التي استغرقت 12 يوم في سوق النفط الخام، ذات صلة بتخبط السعودية على خلفية العقوبات الأمريكية الضعيفة التي فرضها ترامب على إيران.
السعودية تمر "بأزمة ثقة"
كتبت الوكالة:
"سواء لاحظت المملكة ما يحدث أم لا، يوجد مشكلة ثقة حيال سياسة المملكة. فالسعودية ملتزمة بالحفاظ على استقرار مستودعات النفط عند متوسط 5 سنوات، وذلك الالتزام محط شك ومخاوف من تكرار ما حدث في 2014 مرة أخرى، خاصة مع ارتفاع النفط الصخري في مستودعات الولايات المتحدة."
متى بدأت أزمة الثقة تلك؟ بدأت في شهر يونيو، عندما أعلن ترامب عن فرض العقوبات على إيران، وقررت الرياض إنهاء تخفيض الإنتاج الذي استمر لـ 18 شهر، بتنسيق مع الأوبك وروسيا. واستمرت عمليات تخفيض الإنتاج المتفق عليها بين الدول الأعضاء وغير الأعضاء في الأوبك بعدما مر السوق بسنوات ثلاث من زيادة العرض، وانهيار السعر، التي تسببت في إيصال النفط إلى مستويات منخفضة لعدة أعوام، ليقارب سعر 25 دولار للبرميل في 2016.
ومنذ يونيو، احتاج الرئيس ترامب من الأوبك أن توقف سياسة تخفيض الإنتاج تلك، لأنها على حد تعبيره خرجت عن نطاق السيطرة عندما ارتفع النفط بقوة على خلفية العقوبات الاقتصادية التي خطط لفرضها على إيران في ذلك الوقت. ومنذ ذلك الحين، صدرت السعودية 2.5 مليون برميل يوميًا. وكانت انتخابات التجديد النصفي الأمريكية على الأعتاب، ولم يكن بالإمكان خسارة ترامب لقاعدته الجماهيرية بسبب أسعار البنزين المرتفعة.
وقاوم وزير الطاقة السعودي، خالد الفالح، دعوات ترامب المطالبة بزيادة السعودية من معروضها النفطي، تاركًا بذلك السعر المعياري برنت للارتفاع نحو 87 برميل في الفترة بين مايو وأكتوبر. وطمأن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، واشنطن بأن الإنتاج سيرتفع بالقدر الكافي للتعويض عما ينقص السوق بسبب اختفاء النفط الإيراني. وأبدى وزير الطاقة الروسي، ألكسندر نوفاك، تعاونه.
وجاء في أحد مقالات Bloomberg أن السلطات الثلاث المسؤولة عن سوق النفط -بن سلمان، وبوتين، وترامب، ولم تذكر الأوبك- لديهم القدرة على رسم طريق أسعار النفط في 2019 وما بعدها.
انكسار رابط التحالف
كان التحالف المكون من الدول الثلاث على وفاق، لحين قرر ترامب منح إعفاءات لثماني دول قبل الانتخابات النصفية، ليسمح لتلك الدول باستيراد النفط الإيراني، ويأتي ذلك بعد توعدات إيصال صادرات إيران من النفط إلى الصفر. وفي ذلك الوقت، شرعت السعودية في ضخ أرقام قياسية من النفط للسوق. وانبثقت الحياة في إنتاج النفط الصخري، الذي كان يعاني من انخفاض عام، ووصل إلى مستويات قياسية، وضخ ملايين البراميل في المستودعات، وبدأت النفط بالتراكم.
وحل زيادة العرض لحد التخمة على الساحة فجأة بعد كافة توقعات تراجع العرض. يستمر النفط في الانخفاض لأسابيع ستة الآن، فاقدًا بذلك 25%، أكثر من الأرباح التي جناها في خمسة أشهر، ويمر بـ 12 يوم للتصفية بلا توقف، لتصبح أطول فترات التصفية للنفط.
وتسبب ذلك في عكس السعودية لسياسة الإنتاج للمرة الثانية في أقل من ستة أشهر، هذه المرة لتخفيض المعروض.
ولكن كانت المفاجآت تنتظر المملكة: فحذر ترامب تحذيرًا خجولًا من أي عمليات تخفيض للإنتاج، وفي إطار سعي الشركات الروسية لعدم فقدان حصتها من السوق، أبدت روسيا هي الأخرى الاعتراض على خطط التخفيض. لذلك جاءت المملكة بمفردها لتعلن عن تخفيض الإنتاج مقدار 0.5 مليون برميل يوميًا، ولم يحوّل هذا الإعلان موقف السوق، بل ازدادت التصفية سوءًا. وبعد أيام، نشرت المملكة بعض الأقاويل عن تخفيض 1.4 مليون برميل يوميًا عندما تجتمع الدول الأعضاء وغير الأعضاء في الأوبك في 6 ديسمبر. وتظل رغبة الروس في عدم الالتزام ظاهرة، قبل الاجتماع بأسبوعين.
وذكرت Energy Aspects عن المأزق السعودي:
"مهمة الأوبك في 6 ديسمبر بسيطة، ولكننا لا نشك للحظة أن الأوبك وروسيا سيجعلون تلك المهمة معقدة."
وأضافت الوكالة:
"تخلى السوق عن الروايات المائلة لمعسكر الثيران، لأنهم لا يعلمون إذا كانت السعودية قادرة على الوفاء بالوعود، ولا كيف ستتطور العلاقة مع الولايات المتحدة، في ظل المشكلات المتعلقة بابن سلمان."
مصائب السوق... والسياسة
والمشكلات المتعلقة بابن سلمان هنا، هي: الإيمان بأن من أمر بقتل المعارض السعودي، المقيم في الولايات المتحدة، جمال خاشقجي. واستخلص أحد تحقيقات السي آي أ إصدار الأمير ولي العهد لأمر القتل، رغم إنكار المملكة. وطبقت المملكة عقوبات على مستويات منخفضة من بعض مسؤولي المملكة، ولكن لو ظهر لابن سلمان صلة مباشرة بالقتل، سيكون الموقف أكثر إحراجًا للرياض.
ويذكر فيل فلين، محلل النفط في Price Futures Group أن "للتقرير السي آي أ أثر على أسعار النفط."
وتتفق Energy Aspects:
"تعني العلاقة المعقدة بين الولايات المتحدة والسعودية الآن عدم إيمان السوق بقدرة المملكة على التصرف بناءًا على الأساسيات وحدها. فلا أحد يثق في عدم إقدام ترامب على إرغام ابن سلمان على التراجع في الليلة السابقة على اجتماع الأوبك."