أصبحنا في القرن الـ 21 ولا يزال يظن البعض أن النقود الورقية مغطاة بما يعادلها من الذهب و المعادن الثمينة، هل هذا التصور صحيح؟
بالطبع الجواب " لا ".
حتى نوضح هذا الأمر لابد من نظرة تاريخية سريعة.
منذ عام 1971 الولايات المتحدة الأمريكية ألغت العمل بمبدأ معيار الذهب حيث كان سعر الدولار محدداً بكمية معينة من الذهب وفقا لاتفاقية بريتون وودز (كل 35 دولار يعادل 1 أوقية (أونصة)من الذهب)...بمعنى آخر أنه قبل عام 1971 كان بالإمكان لأي شخص أن يذهب إلى أي فرع من فروع البنك الفيدرالي في الولايات المتحدة الأمريكية و يستبدل كل 35 دولار أمريكي بأونصة واحدة من الذهب....و لكن في 1971 و تحديداً في عهد الرئيس نيكسون تم إلغاء العمل بهذا النظام و الذي كان يسمى gold standard .
إلغاء العمل بمعيار التغطية الذهبية أتاح للنظرية النقدية الحديثة MMT أن تسيطر على السياسة النقدية الأمريكية بشكل خاص والعالمية بشكل عام وأتاحت للفيدرالي الأمريكي التوسع بشكل غير مسبوق في إصدار العملة الورقية بدون تغطية ذهبية، والسبب هو أن أمريكا أرادت التوسع في حجم إنفاقها و ديونها بشكل كبير ما دفعها للتوسع بالإصدار النقدي بشكل مبالغ فيه، و بالتالي تراجعت قيمة العملة و قوتها الشرائية مع مرور الوقت (الدولار منذ إنشاء الفيدرالي عام 1913 و حتى اليوم فقد حوالي 96% من قيمته)، كما أن دافع أمريكا للتوسع أكثر و أكثر هو أن الدولار شكل (و يشكل) حالياً الأساس في الديون و الاحتياطيات النقدية لدول العالم جميعاً. من وجهة نظري فإن كل دول العالم ستكون حريصة على عدم انهيار الاقتصاد الأمريكي أكثر من أمريكا نفسها، على عكس الهراء الذي يروج له فريق "انهيار الاقتصاد الأمريكي".
الـ MMT عززت الذهب كملاذ آمن!
صحيح أن الـ MMT نجحت في جعل الأمور أكثر مرونة تجاه التوسع في حجم الإصدارات النقدية المكشوفة والغير مغطاة بما يقابلها من معادن (SE:1211) ثمينة، ولكن عناصر الخلل في هذه النظرية التي عززت وسرعت في دور العجز والتضخم في المشهد الاقتصادي العالمي جعلت الحاجة للملاذ الآمن أكثر إلحاحاَ، وهذا ما يدفع الذهب بشكل خاص والسلع بشكل عام لتكون الرابح الأكبر تجاه التوسع في الإصدار النقدي بغض النظر عن السلوك السعري على المدى القصير والمتوسط.
- يعود اعتبار الذهب كخزان للقيمة و ملاذ آمن بالاضافة لكونه سلعة استثمارية مجدية لعدة عوامل، سنذكر أهمها:
- الثقافة العامة و العامل النفسي:
ترسخ في الأذهان عبر الأجيال المتلاحقة بأن الذهب هو سيد المعادن الثمينة و بأنه الملاذ الآمن في الظروف الصعبة و هو الأكثر قبولا و رغبة لدى عامة الناس و هو لن يخذلك يوماً.
- الندرة و المحدودية:
الذهب و المعادن تستمد قيمتها من محدودية كمياتها المتوفرة و عدم القدرة على انتاجها مخبرياً،
رغم أن هناك أصولاً يتم اللجوء إليها في الحالات الاستثنائية، إلاَ أن الذهب يبقى الأكثر بريقاً.
ففي أعقاب الأزمة المالية عام 2008 تهافت أصحاب رؤوس الأموال للاستحواذ على الأعمال الفنية عبر دور المزادات الكبرى و تم بيع الكثير من الأعمال الفنية بأرقام كبيرة جداً...و السبب هو أن هذه الأعمال متفردة، فاللوحة الفنية مثلا لا يوجد منها إلا نسخة واحدة (مبدأ الندرة)...كما لا يمكن إعادة إنتاجها مرة أخرى (محدودية الإنتاج)...و في هذه الحالة سيحتفظ العمل الفني بقيمته بل و ستتضاعف مع مرور الزمن لأن هواة جمع الأعمال الفنية كانوا و ما زالوا موجودين و هذه الأعمال تعني لهم الشيء الكثير (مبدأ الثقافة و العامل النفسي).
من هذا الجانب، ما الفرق بين الذهب و الأعمال الفنية؟
الذهب أوسع انتشاراً و قبولاً، و الأهم أنه قابل للتجزئة...بمعنى آخر أنه يمكن للشخص ان يشتري أي كمية مهما صغر أو كبر حجمها من الذهب و المعادن الثمينة، أما العمل الفني فلا يمكن تجزأته و هو بطبيعة الحال يلقى اهتمام فئة معينة و محدودة فيما لو تمت مقارنته بالذهب و المعادن الثمينة، بالإضافة لتفاوت صعوبات التخزين و الصيانة.
هل سيعود العمل بمعيار الذهب في إصدار النقود؟
الأمر شبه مستحيل في ظل الـ MMT، صعوبة الأمر تكمن في أن الإصدار النقدي أصبح خارج عن السيطرة بشكل كبير و أن اعتماد معيار الذهب بعد كل هذه السنوات من الإصدار النقدي الضخم و المتزايد سيجعل أونصة الذهب تصل لأرقام فلكية تجعل الأمر أكثر صعوبة و يحتاج للعودة لنظام نقدي آخر و مبتكر، و من وجهة نظري اعتقد أن المصارف المركزية الكبرى ستكون مطالبة في المستقبل بخلق نظام نقدي جديد أكثر جدوى ويتماشى مع طفرة الإنترنت و الذكاء الصناعي و البنية التحتية المستمرة في التطور و بصورة متسارعة (النقود الرقمية)، و التي ستكون قادرة على استيعاب كل الإصدارات النقدية السابقة و اللاحقة و ستسمح بالتحكم و التوسع في الإصدارات الرقمية وبالتالي في حجم الإنفاق و الديون على حد سواء.