أسواق المال ومنطق الاستثمار العقلاني!

تم النشر 11/04/2019, 14:40
محدث 09/07/2023, 13:32

من الطبيعي أن الهدف الرئيسي من الدخول في أسواق المال هو تحقيق العائد مثله مثل أي استثمار لأهداف ربحية. إن أسواق المال تعتبر من أكبر وأضخم الأسواق من حيث الحجم والسيولة المتداولة يومياً، وهذا أمر طبيعي فرضته طبيعة هذه الأسواق وتنوع الأدوات فيها، ولكن السؤال المهم، لمن هذه الأسواق وهل من فئة محددة يخاطبها السوق؟.
في واقع الأمر من حيث المبدأ فإن الأسواق وجدت لكل شخص أو مؤسسة راغبة في الاستثمار، بغض النظر عن طبيعة عمل الشخص أو المؤسسة، ولكن هذا السؤال يقودنا للسؤال الذي يليه مباشرةً، هل من صفات أو أسس يجب أن يتبعها الراغبين في الدخول إلى أسواق المال؟
بالطبع "نعم"، وهنا نحن لا نتحدث عن المتخصصين في أسواق المال، نحن نتحدث عن الشريحة الغير متخصصة والتي ترغب في الاستثمار في الأسواق المالية.
أهم ما يمكن أن ندرجه في هذا السياق من صفات هي:
- استثمر ما يفيض عن حاجتك.
- إذا أردت الاستعانة بالقروض فعليك أولاً الاستعانة باستشاري قادر على وضع خطة عمل تخدم الهدف الرئيسي وتبقيك بعيداً عن المخاطر العالية.
- لا تردد آخر كلام سمعته، وهذه مشكلة يتعرض إليها السواد الأعظم من المتعاملين في أسواق المال؛ لأنهم تحولوا إلى أداة تتلقى المعلومة من عدة مصادر متخصصة وغير متخصصة، وتكون بالتالي فريسة سهلة للشائعات وصناع المحتوى بأشكاله المختلفة في السوق، ولدرجة أنهم أصبحوا يتبنون أي معلومة شرط سهولة الحصول عليها.
- استعن باستشاري وأحسن الاختيار:
مهما وصل المستثمر إلى حجم من الخبرة والتمرس لابد أن يكون هناك رأي يستعين به من جهة استشارية معتمدة حتى يكون التوجه الاستثماري والاستراتيجية الاستثمارية مبنية على عدة سيناريوهات ومواقف قد لا تكون ضمن حسابات المستثمر نفسه.
- ابتعد عن المعلومة الرخيصة والمتاحة للجميع:
لنتفق على مبدأ مهم وهو أنه لا يوجد من هو مستعد أن يقدم لك مفاتيح النجاح والتفوق في الأسواق بدون مقابل، وأن المعلومة الرخيصة الثمن لن تكون مجدية ولن تحقق الهدف المنشود؛ وذلك بسبب انخفاض جودة العاملين عليها.
إن التطور التكنولوجي وانتشار التطبيقات الذكية جعل كثيرين ممن يستهدفون جيوب الراغبين في الاستثمار يجدون أنفسهم قادرين وبكل سهولة على ابتكار محتوى سواء من خلال إصدار التوصيات أو تقديم البرامج التدريبية المجانية أو غيرها من الأدوات التي لا تعدو كونها أحد أمرين:
الأول: هو أنها تكرار فارغ، ومجرد قص ولصق من أماكن أخرى.
الثاني: هو ضعف إمكانيات مقدم المحتوى واعتماده على الإبهار البصري والتقني وتعقيد المصطلحات ليغطي ضعفه في الجانب التخصصي.

-الاستثمار في الأسواق لا يملك وصفة سحرية في كتاب أو بحث:
العلم والبحث المتخصص أمر لابد أن نتفق على أهميته، وأنه واحد من الامتيازات التي يعتبر توافرها بمثابة باب مهم ومتاح للدخول بطريقة سليمة لعالم الأسواق المالية ويشكل دافعاً ومحركاً يزداد أهمية مع تراكم الخبرة العملية.
هنا لابد أن نطرح التساؤلات التالية:
مع توفر الأعداد المهولة من الكتب والأبحاث المتخصصة وذات القيمة العالية في تحليل الأسواق فنياً واقتصادياً ابتداءاً من جون ميرفي وانتهاءاً بوارن بافيت وغيرهم الكثير، هل نستطيع أن ننكر أن كثيرين حول العالم قرأوا هذه الكتب والأبحاث واستوعبوها بشكل صحيح ولكنها لم تخلق وارن بافيت جديد ولا حتى رائد أعمال جديد مثل (جاك ما).
لو جمعنا كل نصائح هؤلاء وحتى التي يتم تداولها على نطاق واسع في كل وسائل التواصل الاجتماعي وأضفنا إليها ما تم قراءته من كتب ومراجع متخصصة هل سيكون ذلك هو المفتاح السري للنجاح في أسواق المال؟ الجواب قطعاً "لا"، فكيف يكون سرياً وهو متاح للجميع، وعلى الرغم من ذلك لم نجد أن من استوعب وفهم وتعمق بين صفحات هذه الكتب والنصائح وحاول التطبيق قد وصل إلى مستوى المؤلفين لهذه الكتب ومقدمي النصائح.

ما هو السبب يا ترى؟ وهل من تفسير منطقي لهذا الأمر؟
لنطرح الفكرة من زاوية واقعية مبسطة من الواقع:
لنفترض أن لدينا صف مدرسي فيه 30 طالب، هؤلاء الطلاب يتلقون المعلومة من نفس المدرسين الأكفاء والذين يعتمدون على نفس البرامج الدراسية عالية الجودة، وضمن طريقة طرح موحدة للجميع، كيف ستكون النتيجة؟ هل ستكون النتيجة موحدة ويكون جميع الطلاب في نفس المستوى ويحققون التفوق؟
من الطبيعي أن يكون الجواب "لا"، لأننا في الصف الواحد سنجد الطالب المتفوق والمتوسط والضعيف؛ علماً أن الجميع خضعوا لنفس طريقة الطرح ولنفس المنهج ومن نفس الأساتذة.
ما هي الأسباب؟
1. تفاوت الإمكانيات الذهنية.
2. تفاوت الرغبة واختلاف درجة الجهد الذي يبذله الطلبة لاستيعاب المعلومة.
3. اختلاف الطلبة في طريقة المعالجة الذهنية للمعلومة.
4. اختلاف الظروف المحيطة بين طالب وآخر.
ولنا أن نتخيل كيف سيكون الحال لو كان الأساتذة والمنهج وطريقة طرح المحتوى أحدهم أو أكثر لا يتمتع بالجودة المطلوبة، هنا من الطبيعي أن تكون مخرجات التعليم ضعيفة ولا تتمتع بالجودة المطلوبة.
إذاً ما الحل؟
هل لو أحضرنا الطالب المتفوق وطبقنا نموذج حياته ودراسته على باقي الطلبة سيتحول البقية لمتفوفين؟ الجواب هو "لا"، ولكن في حال توفرت جميع الظروف التي ذكرناها في واحد أو أكثر من الطلبة البقية فقد نصل لحالة (الاستنساخ).

كيف نسقط هذا الكلام على التحليل الفني والاقتصادي؟
لابد في البداية من توضيح نقطة مهمة قبل عملية الإسقاط، كلا التحليلين سواء الفني أو الاقتصادي له أهمية لابد من احترامها، فالتحليل الفني يعتمد على نماذج واضحة ومتاحة أمام الجميع ولا تعدو كونها 1+1=2 ، بمعنى آخر فإن التحليل الفني يمتلك أسس ثابتة ولا تتمتع بالمرونة، ولكنه أداة مهمة جداً لفهم الخريطة التاريخية للسلوك السعري وتوقع مدى الحركة اللاحقة بناءاً عليه.
أما التحليل الاقتصادي فهو يعتمد على كم هائل من النظريات والطروحات التي يشكل فهمها واستيعابها عامل أساسي من عوامل فهم تحركات الأسواق ومستقبلها ، ولكن التحليل الاقتصادي يحتاج لمرونة عالية في ربط البيانات وتحليلها وطرح السيناريوهات المحتملة بناءاً على فهم وإدراك المحلل الاقتصادي نفسه، وبالتالي التحليل الاقتصادي ليس 1+1=2 مثال:
بشكل عام كل المتداولين في السوق يعلمون تماماً أن النتائج الإيجابية لسوق العمل هي أمر إيجابي لعملة البلد المدروس، وبالتالي ظهور النتيجة إيجابية نظرياً يجب أن يحرك الجميع في اتجاه المراكز الطويلة (الشراء) على هذه العملة لتحقيق الأرباح، ولكن في الواقع قد يحصل العكس تماماً وتتعرض العملة للانخفاض وبالتالي هذا الأمر سيجعل كثيرين يشككون في جدوى هذه المعطيات، والبعض قد يذهب إلى أبعد من ذلك من خلال تبني مراكز عكس ما تظهره النتائج ظنَاً منهم بأن السوق يتحرك عكس البيانات، طبعاً هذا التصور ساذج وغير صحيح على الإطلاق.

إن صعوبة التحليل الاقتصادي الكلي تكمن في القدرة على النظر إلى أكبر أجزاء من الصورة واستيعابها وربطها مع بعضها البعض وتشكيلها مثل الـ Puzzle، وأخذ عوامل التحفيز أو الـ Catalysts والتي تساعد على الربط بين أجزاء الـ Puzzle بشكل عام وشامل لتتضح الصورة كاملة على أفضل التقديرات الممكنة ، بالتالي من ينظر إلى بيانات وظائف فقط سيكون قد نظر للنتيجة دون أن يستوعب التفاصيل التي أدت لها والنتائج الأخرى التي تمتلك تأثير مباشر على هذه الجزئية مثلا الإنتاجية، نمو معدلات الأجور، نسبة المشاركة، جودة الوظائف، معدلات الإنفاق الاستهلاكي،.......إلخ وغيرها الكثير والكثير من البيانات الهامة وذات الصلة، مع التأكيد على ضرورة فهم واستيعاب دور العوامل السياسية والجيوسياسية والسياسات النقدية والتي تعتبر بدورها عناصر مهمة ومؤثرة بشكل رئيسي ومباشر في اكتمال المشهد العام القادر على تحديد صورة أكثر وضوحاً واحترافية لاتخاذ القرار في الاستثمار بشكل عام وفي أسواق المال بشكل خاص. وكنتيجة فإن المتعامل مع أسواق المال يستطيع التعامل معها بالحد المطلوب والأدنى من أساسيات التحليل الفني مع ضرورة توفر التمكن و القدرة العالية والمتميزة على بناء نظرة تحليلية لجوانب الاقتصاد الكلي، ولكن لا يصح العكس من وجهة نظري، أي أن المتمكن من جوانب التحليل الفني بنسبة 100% ولديه قصور وعدم تمكن في تكوين وجهة نظر تحليلية واحترافية لجوانب الاقتصاد الكلي سيكون حتماً ضمن دائرة (الهواة).

-إدارة المخاطرة:
للأسف الأغلبية تتعامل مع مفهوم إدارة المخاطرة أو الـ Risk Management بطريقة سلبية نتيجة نقص الفهم والإدراك لهذا الجانب والظن بأنه متعلق فقط بأسواق المال والأسهم.
إن مبدأ المخاطرة موجود في جميع أشكال الاستثمار وحتى التقليدي منها (عقاري-سياحي-خدمي ....وإلخ)، ولابد لكل نوع من أنواع الاستثمار أن يحمل جانب أو أكثر من جوانب المخاطرة التي تتعلق بالعوامل المرتبطة بالمشروع نفسه، أو عوامل خارجية وغير مباشرة، وبالتالي عدم فهم عناصر المخاطرة سيجعل الاستثمار عرضة للمفاجآت الغير محسوبة، لن يكون المستثمر قادراً على التعامل معها بالسرعة المطلوبة. الاستثمار العقلاني بشكل عام يجب أن يحدد أوجه المخاطرة بصورة دقيقة، ويحدد آلية التعامل معها ويوزعها توزيعاً صحيحاً بعد الأخذ بعين الاعتبار لعدة عوامل ومنها:
حجم الاستثمار- معدل العائد المتوقع (العلاقة بين العائد والمخاطرة علاقة طردية) - توزيع السيولة بشكل صحيح- مرونة المراكز الاستثمارية، وغيرها الكثير من العناصر التي تحتاج لمزيد من التفصيل والتوضيح.
في أسواق المال هل من الممكن أن يباشر المستثمر استثماره بصورة مباشرة أم يجب أن يعتمد على استشاري؟
-بإمكان المستثمر أن يباشر استثماره في أسواق المال بنفسه، ولكن عليه أن يكون قادراً على إدراك كل ما ذكرناه من نقاط ، مع العلم وكما ذكرنا سابقاً؛ فإن المستثمر حتى إن لم يكن مؤهلاً وقرر أن يباشر استثماره بنفسه فلابد أن يعتمد على رأي جهة استشارية مؤهلة.
أما المستثمر غير المؤهل والذي لا يملك الأدوات التحليلية والإمكانيات اللازمة لتؤهله لمباشرة استثماره بنفسه؛ فعليه قولاً واحداً أن يعتمد على جهة استشارية للإشراف على استثماره، وهنا تتركز مسؤولية المستثمر في جودة اختياره والابتعاد كل البعد عما هو شائع من تضليل، وأن يحصر خياره ضمن:
1. الجودة.
2. الكفاءة.
3. الواقعية.
4. خطة العمل الواضحة.
لنكن واقعيين............. لا يوجد ما هو مجاني في عالم الاستثمار الذي يقوم على قاعدة
It takes money to make money ، لذلك فإن الإنفاق على تحقيق العوائد (تكلفة العائد) هو أمر أساسي لا يمكن أن نقارنه بأي شكل من الأشكال بخسارة الاستثمار كاملاً.

خلاصة القول:
تحقيق النتائج الإيجابية خلال مدة زمنية معينة في أسواق المال لا يعني بالضرورة شيئاً جيداً بالمطلق!
لتوضيح هذه النقطة دعونا نعود بالتاريخ قليلاً قبل أزمة عام 2008، عندما كان الجميع يتعامل مع أسواق المال على أساس أنها حاضنة لتفقيس المال، وأنها طريق في اتجاه واحد فقط وهو الربح الأكيد، وأنها تصنع الأثرياء بدون جهد، وأنها العصا السحرية للراغبين في الثراء.
بالفعل هذا حصل في أوقات الطفرة، كل الفئات وبكل الأعمار صنعوا ثروات بأسهل الطرق ودون أي فهم للأساسيات والقواعد، لدرجة أن الغالبية كانت غير قادرة على قراءة أبسط ميزانية عمومية وتحليل بياناتها وتحديد جدوى الرؤى المستقبلية واستراتيجيات الشركات التي يحملون أسهمها، ووصل البعض منهم لابتكار كم من الهراء في أساليبهم الخاصة في التداول التي لا تمت لأبسط قواعد الاستثمار بأي صلة والتي كان يقلدها الآخرون لمجرد أنها حققت نتائج معينة رغم أنها تعتمد اعتماد كامل على الإشاعات وثرثرة المقاهي والجلسات، وأصبح التنبيه من قبل بعض المختصين لهذه الفئة من المستثمرين في ذاك الوقت يعتبر نوعاً من أنواع الهرطقة والفلسفة الفارغة، والنتيجة في النهاية يعلمها الجميع، وأصبحت الأغلبية تسب وتلعن السوق رغم أنهم هم من دخلوه بإرادتهم، وهم من اتخذوا القرارات فيه ولكن أغلبهم لم ينتبهوا ولم يعترفوا إلى أنهم هم أنفسهم من أساء استخدام أدوات السوق ولم يتعاملوا معها بصورة احترافية، بل كانوا مزيجاً من الطمع والعواطف والحسابات الخاطئة، والتي يعتبر السوق بريئاً منها.
إن أسواق المال كانت ولا تزال واحدة من محركات الاقتصاد الأساسية والرئيسية وحاضنة متميزة للراغبين في الاستثمار العقلاني.

chart

أحدث التعليقات

جاري تحميل المقال التالي...
قم بتثبيت تطبيقاتنا
تحذير المخاطر: ينطوي التداول في الأدوات المالية و/ أو العملات الرقمية على مخاطر عالية بما في ذلك مخاطر فقدان بعض أو كل مبلغ الاستثمار الخاص بك، وقد لا يكون مناسبًا لجميع المستثمرين. فأسعار العملات الرقمية متقلبة للغاية وقد تتأثر بعوامل خارجية مثل الأحداث المالية أو السياسية. كما يرفع التداول على الهامش من المخاطر المالية.
قبل اتخاذ قرار بالتداول في الأدوات المالية أو العملات الرقمية، يجب أن تكون على دراية كاملة بالمخاطر والتكاليف المرتبطة بتداول الأسواق المالية، والنظر بعناية في أهدافك الاستثمارية، مستوى الخبرة، الرغبة في المخاطرة وطلب المشورة المهنية عند الحاجة.
Fusion Media تود تذكيرك بأن البيانات الواردة في هذا الموقع ليست بالضرورة دقيقة أو في الوقت الفعلي. لا يتم توفير البيانات والأسعار على الموقع بالضرورة من قبل أي سوق أو بورصة، ولكن قد يتم توفيرها من قبل صانعي السوق، وبالتالي قد لا تكون الأسعار دقيقة وقد تختلف عن السعر الفعلي في أي سوق معين، مما يعني أن الأسعار متغيرة باستمرار وليست مناسبة لأغراض التداول. لن تتحمل Fusion Media وأي مزود للبيانات الواردة في هذا الموقع مسؤولية أي خسارة أو ضرر نتيجة لتداولك، أو اعتمادك على المعلومات الواردة في هذا الموقع.
يحظر استخدام، تخزين، إعادة إنتاج، عرض، تعديل، نقل أو توزيع البيانات الموجودة في هذا الموقع دون إذن كتابي صريح مسبق من Fusion Media و/ أو مزود البيانات. جميع حقوق الملكية الفكرية محفوظة من قبل مقدمي الخدمات و/ أو تبادل تقديم البيانات الواردة في هذا الموقع.
قد يتم تعويض Fusion Media عن طريق المعلنين الذين يظهرون على الموقع الإلكتروني، بناءً على تفاعلك مع الإعلانات أو المعلنين.
تعتبر النسخة الإنجليزية من هذه الاتفاقية هي النسخة المُعتمدَة والتي سيتم الرجوع إليها في حالة وجود أي تعارض بين النسخة الإنجليزية والنسخة العربية.
© 2007-2025 - كل الحقوق محفوظة لشركة Fusion Media Ltd.