تغير حال العالم بكل تأكيد منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، ولم يعد يستطع الفيدرالي الأمريكي "أكبر المؤسسات المالية وزناً في العالم" أن يخفي مخاوفه أو أن يلين من قساوة الواقع الاقتصادي القادم على الدول أجمع، وعبر عن تلك المخاوف في عدة تصريحات وبيانات للجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة منذ أبريل 2022 حتى آخر بيان صدر للجنة في نوفمبر والتي كانت تركز على موضوع واحد وهو "تسبب حرب روسيا ضد أوكرانيا في صعوبات بشرية واقتصادية هائلة، وتخلق الحرب والأحداث ذات الصلة ضغطًا تصاعديًا إضافيًا على التضخم وتؤثر على النشاط الاقتصادي العالمي، وبأن اللجنة حريصة للغاية على مخاطر التضخم، وستأخذ في الاعتبار التشديد التراكمي للسياسة النقدية"، إضافة إلى ذلك، شكلت حالة " عدم اليقين " في بقية دول العالم مزيداً من التشديد في سياستها المالية مع وصول المخاطر الاقتصادية والمالية والجيوسياسية إلى مستويات متقدمة.
السياسة المالية والتشديد وحكايا الدولار:
ارتفعت الأسعار بعد الغزو الروسي في وقت كانت فيه الأسواق بالأساس تشهد ارتفاعاً عالمياً ملحوظاً قبل الحرب، مما يعني ازدياد في تكاليف المعيشة وتآكل في القوة الشرائية وزيادة في تكاليف اقتراض الشركات مما يعني أيضاً زيادة في الضغوط على سيولة السوق، وقد تواجه العديد من اقتصادات الأسواق الناشئة صعوبات وتحديات كبيرة ، لا سيما الاقتصادات المستوردة للسلع الأساسية، الضغوط التضخمية القوية والتأثير المستمر للحرب في أوكرانيا على أسواق الطاقة ، يترك صناع السياسات أمام خيارات صعبة من أجل الحفاظ على استقرار الاقتصاد ككل وتحسين آفاق النمو المستدام والشامل على المدى المتوسط، كما جاء في تقرير التوقعات الاقتصادية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية "هناك حاجة إلى استمرار تشديد السياسة النقدية في معظم الاقتصادات المتقدمة الرئيسية لترسيخ توقعات التضخم وخفض التضخم بشكل دائم،. ستحتاج تدابير السياسة المحلية إلى المعايرة بعناية والاستجابة للبيانات الجديدة بالنظر إلى حالة عدم اليقين بشأن توقعات النمو، والسرعة التي تسري بها معدلات الفائدة المرتفعة والآثار غير المباشرة المحتملة من السياسة التقييدية في البلدان الأخرى، من المرجح أيضًا أن تؤدي الظروف المالية العالمية الأكثر تشديدًا وضغوط التضخم المستمرة إلى مزيد من تشديد السياسة النقدية في العديد من اقتصادات الأسواق الناشئة "
وعلى ما يبدو أن ضغوط التضخم ستكون أكثر عنادا وسيتباطأ نمو النشاط الاقتصادي العالمي بشكل كبير استناداً لتبعات الأزمة الحالية، فمؤشر الدولار قد وصل إلى أعلى مستوى له في أكثر من ٣٠ عاماً ولطالما كانت التحركات الحادة و الكبيرة في سعر الصرف تشكل العديد من المخاطر، حيث أن القيمة المرتفعة للدولار يمكن أن تؤدي إلى المزيد من الضغوط على بلدان الأسواق الناشئة التي لديها كميات كبيرة من " الديون الدولارية" التي لا يتم تحوطها أو تعويضها بأصول أو عائدات الدولار ويعني ذلك مزيداً من التعقيد في إعادة تمويل تلك الأسواق بوجود العديد من الديون المستحقة الدفع وبالتالي رهن تلك الأسواق لرحمة جشع المال الأجنبي مع الكثير من التنازلات.
صدمة في الاقتصاد الأوروبي:
يستمر الغزو الروسي لأوكرانيا في إحداث صدمة تلو الصدمة في اقتصاد بلدان اليورو والتي قد تشكل تحديات أمام المرونة المالية للأسر والشركات والمؤسسات المالية والحكومات في جميع أنحاء المنطقة، وعلى ما يبدو بأن ضعف خطوط امداد الغاز المفاجئة قد تسبب في زيادة واضحة لأسعار الطاقة مما يعني زيادة في تكاليف الإنتاج وخصوصاً مع استمرارية وقع الارتفاعات التي خلفتها الأزمة وامتدادها إلى خارج المتوقع وخارج ما يصرح عنه في النشرات الإعلامية الحكومية، إضافة للتحديات التي تواجهها الأسواق المستهلكة في إيجاد طرق إمداد بديلة، ناهيك عن حاجتها لأنواع مختلفة من مدخلات الطاقة بحسب نوع الاستهلاك، وقد يجبر هذا الاضطراب في التوريد بعض الشركات الرئيسية على وقف الإنتاج تماماً، وخضوع بعضها الآخر إلى تخفيض الاستهلاك القسري الذي سيذهب بساعات العمل على المدى المتوسط والبعيد إلى الانخفاض مما يعني دخل أقل وتأثر القطاع الخاص أيضاً بسعر مرتفع وطلب ضعيف مؤدياً كل ذلك إلى ركود واضح وصادم وقد يمتد لمدة أطول مما هو متوقع في غرف صناع السوق.
"ثور الصين العظيم" الخط التجاري العالمي:
أدت أزمة قطاع العقارات في الصين إضافة إلى الاحتواء المهتز أو المتوتر لجائحة كورونا وانخفاض قيمة الرنمينبي أمام الدولار إلى ضعف وتباطؤ في النمو الاقتصادي إضافة لمعدلات بطالة مرتفعة وتأثر بعض أسواق البلدان الناشئة حول العالم فعلاً بأزمة عملاق التجارة خصوصاً بعد هرب الكثير من رؤوس الأموال إلى الخارج.
السيولة وتحديات الأسواق:
كما هو معروف بأن جودة أي سوق من الأسواق يعتمد على كمية التدفقات النقدية فيه، وإن أي انخفاض في السيولة سيهدد السوق كونه سيسبب تضخماً في تقلبات أسعار الأصول، وقد جاء في تقرير مجلس الاحتياطي الفيدرالي حول الاستقرار المالي بنشرة شهر نوفمبر 2022 "لاتزال أسواق التمويل قصير الأجل تعاني من نقاط ضعف هيكلية، حيث تظل بعض الأسواق والمؤسسات عرضة لعمليات سحب كبيرة وغير متوقعة، لقد انخفض عمق السوق بشكل ملحوظ، الأمر الذي انعكس في المقام الأول على الحذر المتزايد من جانب مزودي السيولة بشأن نشر الأسعار بكميات كبيرة في مواجهة تقلبات الأسعار المتزايدة، وقد أدى هذا التقلب المتزايد بدوره إلى انعكاس قدر كبير من حالة عدم اليقين بشأن التوقعات الاقتصادية والاستجابة المناسبة للسياسات النقدية".
وكما نعلم بأن العنصر الأكثر سيولة في سوق أي خزانة هو سوق الوسطاء بين المتداولين في الأوراق المالية ، حيث يتم التداول في الغالب على منصات تستخدم دفاتر أوامر الحد المركزي (Clob) "Central limit order books"، ويمكن للمشاركين في السوق إما توفير السيولة عن طريق نشر عروض الأسعار لشراء وبيع الأوراق المالية أو استهلاك السيولة عن طريق تقديم أمر شراء أو بيع بأفضل سعر متاح، على النقيض من ذلك ، فإن المتاجرة من تاجر إلى عميل في الأوراق المالية غير المتداولة تتم إلى حد كبير باستخدام بروتوكول "طلب عرض الأسعار"RFQ) " Request for Quotation )، حيث يمكن لعملاء تجار الأوراق المالية في الخزانة الحصول على عروض أسعار لشراء أو بيع مبلغ معين، تشكل التدابير التي تأخذ أبعاداً مختلفة من السيولة "عمق السوق" ، و هو أمر مناسب فقط للأسواق القائمة على CLOB وفارق العرض والطلب ، والذي يمكن ملاحظته لكل من الأسواق المستندة إلى CLOB و .RFQ
إن عمق السوق هو متوسط الكميات المتاحة للشراء أو البيع بأفضل الأسعار المعلنة، يشير عمق السوق الأكبر إلى قدرة أكبر على التداول الفوري بمبالغ أكبر دون تحريك السعر، وبالتالي توافر كمية أكبر من السيولة، وفارق السعر بين العرض والطلب هو الفرق بين أفضل عرض أسعار لشراء أصل وأفضل عرض أسعار طلب "عرض أسعار لبيع هذا الأصل" ، تشير فروق أسعار العرض والطلب الأصغر إلى انخفاض تكاليف التداول ، وبالتالي ، وجود أسواق أكثر سيولة، على عكس ما يجري الآن بسبب المخاوف المتصاعدة لمزودي السيولة من الأزمات الحالية والتي أدت إلى زيادة في "مخاطر التمويل" وبالتالي انخفاض في السيولة، أي انخفاض في عمق السوق كما ورد في التقرير، ومن المرجح أن يكون انخفاضاً غير مؤقت.
في النهاية، مع التوتر الجيوسياسي تولد أسواق هشة واتصال قنوات التجارة يهدد الناتج الإجمالي :
تواجه الأسواق مخاوف كبيرة من اضطرابات السياسة النقدية في العديد من الدول مما يعطي مزيداً من التقلبات واتجاه ظنون السوق العام لتحولات غير متوقعة، وبعبارة أشد وضوحاً (لتحولات غير مصرح عنها بشفافية) من قبل صناع السوق مشابهة للأزمة المالية العالمية ٢٠٠٨-٢٠٠٩ وربما إلى أخطر من ذلك، فمع ارتفاع التضخم المستمر وضعف النمو وضعف نشاط المالية العامة وتقليص الميزانية العمومية في العديد من البنوك المركزية و الصراع المستمر ومخاوف فتح جبهات وصراعات أخرى " الصين وتايوان" في الوقت الذي يعاني منه العالم من تداعيات الغزو الروسي، تزداد آفاق المخاطر الممتدة بين القنوات التجارية والمؤسسية والمالية حول العالم مما ينعكس بشكل مباشر على معنويات المستثمرين وبذلك أصبحت الأسواق أكثر هشاشة مما كانت عليه بكثير في الخمس عشرة سنة الأخيرة، إضافة لذلك تأثر الناتج الإجمالي المحلي للبلدان بشكل مباشر بهشاشة السوق "المقياس الفردي الأكثر استخدامًا للنشاط الاقتصادي الإجمالي للبلد، يمثل القيمة الإجمالية بالأسعار الثابتة للسلع والخدمات النهائية المنتجة داخل بلد ما خلال فترة زمنية محددة ، لسنة واحدة مثالاً".
يشير مقياس القراءة للناتج الإجمالي المحلي إلى بلوغ الذروة على أساس النسبة المئوية لعام 2007:
- الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية 8,4
- الاقتصادات المتقدمة 2,7
- النسبة على أساس عالمي 5,6
لاحظ التغير الشديد في مقياس القراءة على أساس النسبة المئوية لعام 2009-2008أعوام الأزمة العالمية " :
الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية 2,8
الاقتصادات المتقدمة 3,3-
النسبة على أساس عالمي 0,1-
مقياس القراءة على أساس النسبة المئوية لعام الجائحة 2020:
الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية 1,9-
الاقتصادات المتقدمة 4,4-
النسبة على أساس عالمي 3-
وهنا يمكن القول بشكل مباشر بأن أثر الجائحة على الناتج الإجمالي المحلي والذي كما هو معروف وتم ذكره بأنه -المقياس الفردي الأكثر استخداماً لقياس النشاط الاقتصادي الإجمالي للبلد- يشير إلى قراءة أكثر حدة مما جاء في مقياس مؤشر الناتج الإجمالي المحلي إبان الأزمة المالية العالمية 2008-2009 وقد يعقب ذلك نتائج أكثر خطورة من المتوقع.
مقياس القراءة للناتج الإجمالي المحلي على أساس النسبة المئوية لعام 2022:
الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية 3,7
الاقتصادات المتقدمة 2,4
النسبة على أساس عالمي 3,2
ومقارنة بذروة 2007 سنجد أن الناتج الإجمالي المحلي للأسواق الناشئة والاقتصادات النامية هو الأكثر تأثراً، وتشير قراءات مقياس النسبة على أساس عالمي بلوغها لمعدلات أقرب من المتوسط، ولا يمكننا أبداً القول – استناداً للقراءات الواردة بأن العالم سيتعافى عما قريب من آثار هذه الأزمات المتتالية، ويبدو أنه سيعاني من موجة ركود قادمة لا محالة قد تزيد من أخطار عدم الاستقرار على كافة الأصعدة والاتجاهات.
أخيراً: يقول ديفيد كورتن ، الخبير الاقتصادي والأستاذ السابق في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد: "اقتصادنا العالمي خارج عن السيطرة ويعمل على عكس المبادئ الأساسية لاقتصاديات السوق."
كل ما ورد في هذا المقال يعبر عن رأي شخصي.
تابع دراساتي وتحليلاتي وقراءاتي للسوق انا حذيفة خطاب، المالك والرئيس التنفيذي لمجموعة MASS GROUP للاستثمار والتمويل.