لا شك أن كثيراً من المتداولين دخلوا بحالة عدم يقين بالتأكيد فيما يخص السياسات النقدية لمختلف البنوك وعلى رأسها الفيدرالي الأمريكي "أضخم المؤسسات المالية وزناً في العالم" بعد ارتفاع أسعار الذهب للشهر 11 على التوالي في طفرة تاريخية لا يمكن أن تتجاهلها الأسواق ولا صناع السوق بكل تأكيد، لكن دعني أخبرك أمراً يا عزيزي القارئ، الاقتصاد العالمي اليوم في بداية انحدار نحو فجوة أكبر بكثير مما يصرح عنه في النشرات الإعلامية العالمية، وما لا تخبرنا عنه الصحف تحدثنا به البيانات والوقائع، بالإضافة إلى سلوك السوق الآن، نحن الآن نعيش أزمة مالية عنيفة أكبر بكثير مما عشناه في الأزمة المالية العالمية السابقة "أزمة 2007"، ولم نصل بعد إلى ذروتها بل لانزال في البداية، لا تتفاجأ يا عزيزي ودعنا نتعمق قليلاً فيما يحدث الآن !.
الأحاديث اليوم في إعلام السوق تتمحور حول التضخم في مجملها ولا شك أن المعدلات المرتفعة تكون مخيفة لأي دولة، تركز الحكومات على مقياس الناتج الإجمالي المحلي"المقياس الأهم لأي معدل نمو اقتصادي للبلدان"، إلا أنه و من جانب موازٍ لا يقل أهمية.. لا يُسلَّط الضوءُ كما يجب على "الانكماش"الذي يحدث حينما تدخل معدلات التضخم بقيمة منخفضة أو إذا استمرت لفترة اطول، الفيدرالي الأميركي لديه هدف بالغ يصل حتى %2 في سياسته النقدية لمعدل التضخم، وقام بالحفاظ على سعر معدل فائدة في الآونة الأخيرة 5.5 ، بالرغم من أن الكثير من بيانات السوق المؤثرة كانت بالفعل جيدة في معظمها ليستمر الفيدرالي الأميركي في خفض معدلات الفائدة، ولكنه لم يفعل! .
وكما هو معروف تُعَدّ السياسة النقدية أحد أهم أدوات البنك المركزي في توجيه الاقتصاد ، ولقد عكس التقرير الصادر عن اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة استراتيجية البنك المركزي في إدارة السياسة النقدية لتحقيق التوازن بين الأهداف الاقتصادية المختلفة، فمن ناحية النشاط الاقتصادي والبطالة، أشار التقرير إلى استمرار النشاط الاقتصادي في التوسع بوتيرة ثابتة، يعكس هذا التوسع استقرارًا في الاقتصاد صحيح في ظاهره، لكن الزيادة في معدل البطالة تُعدّ مؤشراً على التحديات التي يواجهها سوق العمل، في هذا السياق، كان من الأجدر توضيح الأسباب التي أدت إلى تباطؤ مكاسب الوظائف وكيف أثر ذلك على استراتيجيات البنك المركزي ! .
وأما عن التضخم والأهداف النقدية، فأشار التقرير إلى أن التضخم قد انخفض لكنه لا يزال مرتفعًا نسبيًا، هذا بالتأكيد يعكس التقدم البطيء نحو تحقيق هدف التضخم البالغ 2%، وأما عن السياسة النقدية وإدارة الفوائد، فتم التأكيد على أن اللجنة قررت الإبقاء على النطاق المستهدف لسعر الفائدة على الأموال الفيدرالية عند 5.5%، وهنا يبدو جلياً أن هذه السياسة قد عكست حذر الفدرالي من خفض الفائدة قبل التأكد من تحقيق تقدم مستمر نحو هدف التضخم.
ووضح التقرير الخطوات التي ستتخذها اللجنة بشأن عمليات السوق المفتوحة وإعادة الاستثمار، ويشمل ذلك عمليات إعادة الشراء العكسي والمبادلة، وكذلك خفض حيازات بنك الاحتياطي الفيدرالي من السندات، هذه التدابير تهدف إلى الحفاظ على استقرار سعر الفائدة وتحقيق أهداف السياسة النقدية، والمستثمرون الآن ينتظرون تأثير هذه التدابير على السيولة في الأسواق المالية وكيفية تأثيرها على الاستقرار المالي العام، لكن على ما يبدو لا يزال "جيروم باول" يصر على أن "السوق بخير ولدينا تدابيرنا الواثقين منها"، إلا أنني أتساءل أنا كواحد من الآلاف ما الذي سيقوله جيروم باول للعالم ككل في ظل التدهور المستمر للاقتصاد مروراً بالجائحة و ليس انتهاء بالتوترات الجيوسياسية الحاصلة الآن في العديد من المناطق؟ وهل يمكن أن تراهن ثيران المتداولين والمستثمرين على أسعار الذهب لفترة أطول من 11 شهراً مرت؟
ولأكون أكثر وضوحاً معك يا عزيزي القارئ أعطني يدك ودعنا نبتعد قليلاً عن طلاسم التصريحات التي – في الغالب – لم يعد كثير من الناس يهتم لها كثيراً في الآونة الأخيرة لما آلت إليه مختلف الأسعار على عكس التوقعات، وما يؤكد ذلك بكل بساطة هو سلوك السوق الحالي والتزام الكثير من المستثمرين في امتلاكهم لأكبر قدر ممكن من الملاذ الآمن، بالإضافة إلى توجه العديد من البنوك المركزية من زيادة احتياطاتها من الذهب، إذاً هل حقاً أننا نعيش أزمة مالية عنيفة كما ذكرتُ في مقدمة مقالي البحثي هذا؟
دعني أعود معك إلى حديث الناتج الإجمالي المحلي الذي كما هو معروف المقياس الرئيسي لتحديد مستوى النمو الاقتصادي لذلك البلد، لنجلس قليلاً أمام هذه الخريطة التي تمثل بيانات الحسابات القومية الاقتصادية للبنك الدولي، وملفات بيانات الحسابات القومية الاقتصادية لمنظمة التعاون والتنمية ولنلقي نظرة على الناتج الإجمالي المحلي "للفرد الواحد" للعام السابق في مختلف أنحاء العالم:
وبعد إلقائك لنظرة سريعة على الخريطة ما الذي لاحظته؟ من فضلك قل لي أنك شاهدت معظم هذا العالم الذي نعيش فيه لا يمكن – ولو قليلاً – أن نقارب ناتجه اليوم من أدنى معدل ناتج في الدولة التي تطبع المزيد والمزيد من الدولارات إضافة للبيانات!
من ناحية أُخرى، إذا كنت تراهن أو تصر على أن أسعار الذهب ستتناسب عكسياً مع الدولار و تنتظر فترة تصحيح "طويل" بفعل الدببة فدعني أخبرك يا عزيزي بأن البلد الذي تخبئ دولارته في جيبك اليوم لا يزال يحافظ على أكبر احتياطي من مخزون الذهب في العالم وبالتالي من شأنه أن يحافظ على قيمة ذلك المخزون أيضاً !! كما هو موضح في الصورة أدناه :
أما عن زيادة الدول من احتياطياتها من المعدن الأصفر في الربع الأول من عام 2024 فبإمكانك أيضا إلقاء نظرة أدناه على البنوك المركزية الأكثر طلباً للذهب :
ولدقة أكبر دعنا نتذكر أن سلوك السوق في لحظات الانكماش الاقتصادي أو التضخم تكون لديه نقطة مشتركة من حيث زيادة الاحتياطيات من المخزون الآمن، وأقصد بالانكماش الاقتصادي تلك الظاهرة الاقتصادية التي تتجلى في انخفاض مستمر للمستوى العام للأسعار، والذي يشكل تحديًا معقدًا للنظم الاقتصادية التي تعتمد على ديناميكية الاستهلاك والاستثمار كمحركين رئيسيين للنمو، مع التغيرات الاقتصادية المستمرة يصبح الانكماش قوة معطلة"للزمن الاقتصادي"إن صح التعبير ويشترك معه التضخم أيضاً في حالة التعطيل هذه، وفي الانكماش حيث تتراجع قيم الأشياء في لحظة وتصبح في اليوم التالي أقل قيمة، هذا الانخفاض التدريجي للأسعار، والذي قد يبدو في البداية نافعًا للمستهلك، يكشف عن وجهه الحقيقي باعتباره عقبة أمام النمو الاقتصادي،
فعندما تتراجع الأسعار، يتسلل الشك إلى قلوب المستهلكين والشركات على حد سواء، مؤديًا إلى تأجيل قرارات الشراء والاستثمار، في هذا الفضاء الزمني المعلق، يتعاظم التأجيل ليصبح سياسة حياتية، يفضل فيها الأفراد الانتظار على المخاطرة، وهذا الجمود في الفعل يؤدي إلى تآكل الطلب الكلي، فتصبح الأسواق خاوية، وتتراجع عجلة الإنتاج.
ومن جهة أخرى، بالنسبة للشركات، تلك الكيانات التي تعتمد على التوقعات المستقبلية لربحية استثماراتها، تجد نفسها في مواجهة واقع مرير، فالإيرادات المستقبلية تتناقص، والأرباح تتضاءل، هذا الواقع يقلل من رغبتها في توسيع أعمالها أو خلق فرص عمل جديدة، وهكذا، تتراجع الاستثمارات، وتزداد البطالة، ويتعمق الركود.
في هذه الدورة الاقتصادية القاسية، ينزلق الاقتصاد إلى حلقة مفرغة، حيث يؤدي ضعف الطلب إلى تعميق الانكماش، مما يزيد من تفاقم الأزمة الاقتصادية، وفي ظل هذه الظروف، قد يجد الاقتصاد نفسه محاصرًا في قبضة انكماش طويل الأمد، يقوده نحو ركود أو حتى كساد عميق، حيث تتلاشى فرص النمو ويصبح الخروج من هذه الحلقة المفرغة تحديًا هائلًا يتطلب جهودًا جماعية ضخمة وابتكارًا اقتصاديًا غير مسبوق بكامل المعنى. راجع مقالي المنشور على Investing.com "بعد عام 2022 هل تخرج الأسواق عن السيطرة؟
وأما عن التوترات الجيوسياسية "الصين وتايوان "أو إيران ودول الإقليم، والحروب "الحرب الروسية الأوكرانية" فقد فاقمت المخاوف لدى الأسواق ولاتزال حتى اللحظة، من خلال عدة قنوات وآليات معقدة، فالحروب غالباً ما تؤدي إلى دمار واسع في البنية التحتية وتعطل الإنتاج والتجارة، مما يحد بشكل كبيرمن قدرة الاقتصاد على النمو والتوسع، هذا التأثير السلبي يمكن أن يؤدي إلى انخفاض كبير في مستويات الإنتاجية، وبالتالي إلى تقليل العرض الكلي للسلع والخدمات في السوق ، بالإضافة إلى ذلك، فهي تخلق حالة من عدم الاستقرار والشك، مما يدفع المستهلكين والشركات إلى تقليص الإنفاق والاستثمار، ففي أوقات الحرب أو المخاوف من نشوب الصراعات الجديدة، يتجنب الأفراد والشركات المخاطر غير الضرورية، مما يؤدي إلى انخفاض الطلب الكلي، هذا التراجع في الطلب يمكن أن يؤدي إلى انخفاض الأسعار، خاصة إذا تزامن مع زيادة في العرض بسبب تراجع القدرة الشرائية للسكان.
كما أن الحروب غالبًا ما تؤدي إلى ارتفاع الدين العام، حيث تضطر الحكومات إلى زيادة الإنفاق العسكري، مما قد يؤدي أيضاً إلى تضخم في البداية، ولكن في حالة الركود العميق أو الانكماش، قد تتغير الديناميكيات الاقتصادية، حيث يصبح من الصعب تحفيز النمو الاقتصادي حتى مع وجود تحفيزات نقدية ومالية، هذا التداخل بين التضخم والانكماش يمكن أن يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي ويجعل الخروج من الأزمة أكثر صعوبة، وكونه أن التوترات والصراعات الحالية مستمرة منذ فترة طويلة ، جعلت العديد من الاقتصادات المتأثرة بالحرب تنزلق إلى حلقة مفرغة من الانكماش، حيث تفاقم الوضع الاقتصادي نتيجة للتفاعلات السلبية بين تراجع الطلب، وتخبط الأسعار، وارتفاع البطالة، وكل ذلك يجعل التعافي الاقتصادي يأخذ فترة طويلة حتى يحدث، ويزيد من هرب رؤوس الأموال نحو ملاذها الآمن "الذهب" وذلك في خطوة باتت طبيعية وبديهية على مر التاريخ ودروسه، وبالنسبة إلى كل ما سبق وكل ما قدمته لك يا عزيزي القارئ دعني أعود إليك بالتأكيد أكثر على الأزمة العنيفة التي يعيشها العالم اليوم من خلال دورة صعود الذهب التاريخية للأسعار وسط ظروف أسوأ بكثير مما عاشه العالم في أزمته المالية لعام 2007 أو أثناء أزمة الديون السيادية التي بدأت في اليونان أو أثناء جائحة كوفيد 19 أو إبان بدء الحرب الروسية الأوكرانية! ويمكنك بكل بساطة ملاحظة ارتفاع أسعار الذهب في الـ 11 شهراً الأخيرة ومقارنتها بعدد الارتفاعات في أزمات العالم الحديثة المذكورة ولك أن تحكم على ما يشهده اقتصادنا العالمي وسلوك السوق اليوم !!
"وبالرغم من ذلك إن الأزمات لا تعني بالضرورة نهاية العالم الاقتصادي، فالأزمات تعتبر فرصًا للابتكار وتحفيز التغييرات الهيكلية في السوق، ففي وجه الأزمات، تضطر الشركات والأفراد لتطوير استراتيجيات جديدة للبقاء والازدهار، ومن هنا تبرز أهمية استراتيجيات التصرف في أزمات العصر الحديث".
خطاب، حذيفة. صائدو الأرباح، من النقطة صفر إلى السوق المئة، كيف تحقق أرباحاً مذهلة في سوق الفوركس؟ أمازون (NASDAQ:AMZN) (AMZN) للكتب، 2024.
وأخيراً أعود للمقولة التي بدأت عنوان مقالي بها مشاركاً الصحفي البريطاني الشهير "ويليام ريس موج 14 يوليو 1928- 29 ديسمبر 2012" :الحكومات تكذب، يكذب المصرفيون، حتى المدققون يكذبون أحيانًا .. الذهب يقول الحقيقة".
وفي خضم ما نعيشه اليوم كمتداولين أو مستثمرين أو أفراد فإن إدارة المخاطر بحكمة والتحوط "بأزمات أو بدونها" هي ما يجعل المرء يستمر في الحفاظ على قيمة ما يملكه.
يمكنك متابعة آرائي وتحليلاتي ودراساتي للسوق عبر Investing.com و أيضاً من خلال حسابي الجديد المخصص للعمل @Hozayifa_ على منصة X ، أنا حذيفة خطاب، المالك والرئيس التنفيذي لمجموعة MASS GROUP للاستثمار والتمويل.