بيروت/الغوطة الشرقية (سوريا) (رويترز) - إنه مشهد الأطفال القتلى الذي لا يزال يلازم أبو غسان الذي عمي بصره لأكثر من شهر وأصيب بالشلل لأسابيع بسبب هجوم بغاز للأعصاب قبل نحو أربع سنوات في ضاحية بدمشق. وتذكر تلك الأحداث التي كان 37 من أفراد أسرته من بين المئات الذين قُتلوا خلالها.
في الأسبوع الماضي عندما قتل هجوم آخر بالغاز 87 شخصا على الأقل على بعد مئات الكيلومترات إلى الشمال قفزت ذكريات الأحداث إلى ذهنه مجددا وبكل قسوة. ويقول الرجل البالغ من العمر (50 عاما) في بلدة عين ترما، إحدى ثلاث بلدات ضُربت بالغاز السام في 2013 بمناطق قرب دمشق تعرف معا باسم الغوطة، إنه عندما علم بأمر الهجوم الأخير بكى "كالأطفال".
كان هجوم الأسبوع الماضي في بلدة خان شيخون الشمالية المرة الأولى التي تقول فيها دول غربية إن حكومة الرئيس بشار الأسد استخدمت مرة أخرى غاز السارين، وهو غاز أعصاب محظور، منذ الهجوم الذي وقع في الغوطة قبل نحو أربع سنوات.
وتنفي دمشق المسؤولية عن أي من الهجومين لكن التأثيرات الدبلوماسية لكل منها كانت شديدة. فقبل نحو أربع سنوات كادت الولايات المتحدة تقصف الحكومة السورية قبل أن تتراجع عندما وافق الأسد على التخلي عن ترسانته الكيماوية والخضوع لتفتيش الأمم المتحدة. وبعد هجوم الأسبوع الماضي أطلقت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صواريخ على أهداف للحكومة السورية للمرة الأولى.
وقال عامر زيدان (28 عاما) وهو معلم بمدرسة في منطقة أخرى من الغوطة الشرقية إن الناجين من هجوم الغوطة لم يتخلصوا قط من الخوف من أن يتعرضوا مجددا لهجوم بالغاز في أي وقت. وأحيت الضربة الجديدة ذكريات ما حدث.
وقال زيدان "بعد مجزرة خان شيخون رجعنا إلى لحظة الصفر وكأن نحن الذين نعيشها، مضيفا أن الفزع يهيمن على الناس هناك."
ومنذ هجوم الأسبوع الماضي، الذي وقع مثل الهجمات السابقة قبل نحو أربع سنوات قبيل الفجر عندما تكون الرياح في أهدأ حالاتها ويكون الغاز السام أشد تأثيرا، نظم السكان عمليات مراقبة ليلية يسهرون فيها لتحذير الآخرين إذا وقع هجوم آخر.
يتذكر زيدان رؤية مئات القتلى قبل أن يسقط هو نفسه فاقد الوعي وهو يحاول مساعدة الضحايا. وفقد بصره لعدة أيام. ويقول "كان نهارا مثل يوم القيامة."
وقال إنه لا يدري ما حدث للطفل الذي كان يمسكه في ذلك الحين. لقي سبعة من أسرته حتفهم وكان يجري تجهيز أحد أقاربه للدفن عندما اكتُشف أنه لا يزال على قيد الحياة.
ومضى زيدان يقول إنهم لم ينسوا هذا الأمر مطلقا مضيفا أنه عندما يرى المرء مئات الأشخاص يموتون فهذا مشهد ليس بالإمكان نسيانه.
وتابع أنه يمشي في أحد الأحياء فيتذكر أن أسرة بأكملها قد فاضت أرواحها في ذلك المكان أو أن حيا بأكمله قد لقي حتفه.
* الخل إلى جانبه
يعيش أبو غسان في عين ترما أيضا لكن يلازمه خوف دائم من هجوم جديد.
ويقول الرجل إنه نجا فقط بسبب ما تلقاه من تدريب عسكري إذ غطى وجهه بقميص مبلل بمجرد شعوره بالسم بينما توفي كل من كانوا معه.
ومنذ ذلك الحين يحمل الرجل قطعة من القماش وبعض الخل معه في كل مكان.
ولا تزال بقايا صاروخ عليه آثار السموم متناثرة في إحدى الشقق. وقال أبو غسان إن مفتشين من الأمم المتحدة جمعوا بعض البقايا وتركوا الباقي لاحتمال استخدامها يوما ما في محكمة لجرائم الحرب.
وعاد سكان للإقامة في البناية السكنية وتذكر أبو غسان مشهد الطيور والدجاج النافقة في الشارع قرب المنزل.
واليوم تقف قوات الحكومة السورية في وضع أقوى كثيرا مما كانت عليه قبل أربعة أعوام وأصبحت المناطق الخاضعة للمعارضة أكثر عرضة للهجوم. وتخضع الغوطة الغربية التي تعرضت للهجوم لسيطرة الحكومة حاليا.
ويقول أطباء إن الغوطة الشرقية، التي تعرضت اثنتان من بلداتها إلى ضربات، تعاني حصارا فعليا منذ سنوات وإنها عرضة للهجوم عن أي وقت مضى. ولم يتمكن الأطباء من تعويض الاتروفين المستخدم لعلاج ضحايا هجمات غاز الأعصاب.
وقال الجراح أبو إبراهيم بكر الذي شارك في علاج ضحايا هجوم مماثل قبل أربعة أعوام في مستشفيين إنه بعد مذبحة خان شيخون تبدو الغوطة متأهبة وإن سكانها يشعرون أن الدور عليها.
وقال إنه لو حدث "لا قدر الله" مذبحة مثل تلك التي وقعت عام 2013 سيكون القتلى ثلاثة أو أربعة أضعاف بسبب عدم وجود الاتروفين أو إمكانات لمقاومة الهجوم.
وقال طبيب آخر يدعى همام داود كان في الغوطة الشرقية خلال هجوم 2013 إنه ذهل بمجرد رؤية صور الأطراف المبتورة والمرضى الذين يخرجون رغاوي من أفواههم.
وقال متحدثا من تركيا التي انتقل إليها قبل شهور قليلة في إطار انسحاب عبر المفاوضات منح معارضي الأسد ممرا آمنا للخروج إن الصور التي شاهدها من خان شيخون تشبه ما شاهده في السابق مشيرا إلى أن الأعراض متطابقة تقريبا.
وأضاف الرجل في اتصال هاتفي إن من الصعب الحديث عن الهجوم مشيرا إلى أنه أكبر من أي شيء يتوقعه المرء.
وأوضح أن الأعراض الصدرية لم تكن تنتهي وإنه لا أحد يعود إلى سابق عهده بنسبة مئة في المئة مشيرا إلى أنه ومن معه عجزوا عن تقديم العلاج بالشكل الملائم لعدم توفر الأدوات.
وبعد رؤية الصور من خان شيخون قال الدكتور داود إنها (الصور) تحمل نفس مستوى اليأس مضيفا أن العجز الذي يشعر به المرء أمام هذه الحالات لا نظير له وهو ما أفقده الأمل في كل شيء.
(إعداد مصطفى صالح ومعاذ عبد العزيز للنشرة العربية - تحرير أحمد صبحي خليفة)