من أنجوس مكدوال
تونس (رويترز) - عاد الإسلامي التونسي راشد الغنوشي إلى مكانه القديم.
فبعد أن غادر دورة السجن والنفي قبل ثورة 2011، وارتقى لمرتبة صانع الملوك ورئيس البرلمان، عاد الزعيم الإسلامي تحت طائلة الفحص والتمحيص من سلطات التحقيق، بينما يجلس خصم له في القصر الرئاسي.
وفي أعقاب القرار الذي أصدره الرئيس قيس سعيد في صيف هذا العام بحل البرلمان المنتخب والحكم بمراسيم، اتهمه الغنوشي بتنفيذ انقلاب ووضع الزعيم الإسلامي حزب النهضة الذي يرأسه في طليعة الصفوف بين أشد منتقدي سعيد.
والآن، بعد أن أحكم سعيد قبضته على القضاء، وضع أحد القضاة الغنوشي قيد التحقيق بشبهة تبييض أموال، وهي اتهامات نفاها النهضة ووصفها بأنها هجوم سياسي.
يأتي التحقيق قبل فترة وجيزة من استفتاء يوم 25 يوليو تموز على دستور سعيد الجديد، والذي تعهد الغنوشي وحزبه بمقاطعته، معتبرين أنه تمثيلية تهدف إلى تثبيت أقدام الرئيس على طريق الحكم المطلق.
ويعني هذا أن حزب النهضة وزعيمه الغنوشي، الذي أصبح الآن شيخا ضعيفا، يداه ترتعشان كثيرا، أصبحا مرة أخرى مركز الصدارة في الصراع على مستقبل تونس.
هو في عيون معجبيه، رجل معتدل ساعد ميله للتسوية على تجنب العنف السياسي بعد الثورة ودفع تونس إلى تبني دستور ديمقراطي.
لكن منتقديه يقولون إنه شخصية استقطابية لا تحظى بشعبية إلى حد كبير، وذلك بسبب الانقسامات الأيديولوجية والفكرية وبسبب الدور المحوري لحزب النهضة خلال سنوات الشلل السياسي وسوء الحكم الذي سمم أجواء الديمقراطية.
ويرون أيضا أنه يشبه حصان طروادة بالنسبة للإسلاميين الأكثر تطرفا الذين استخدموا الموقع المهيمن لحزبه بعد 2011 للتسلل إلى مفاصل الدولة، وهو ما ينفيه حزب النهضة.
* ثورة
كانت سلطات الحكم بعيدة كل البعد عن جذور الغنوشي في حركة إسلامية محظورة في الثمانينيات من القرن الماضي، عندما سُجن مرتين ثم نُفي لعقدين كاملين في ضاحية إيلينج بغرب لندن، بتهمة محاولة الانقلاب.
وأثناء وجوده هناك خفف من أيديولوجيته بالأفكار الديمقراطية وربطته صداقه بزميله الزعيم الإسلامي التركي رجب طيب أردوغان.
وعندما انتفض التونسيون ضد الرئيس الراحل زين (TADAWUL:7030) العابدين بن علي في يناير كانون الثاني 2011، عاد الغنوشي إلى وطنه. هبط بعد أسبوع من فرار الطاغية، وكانت في استقباله الحشود السعيدة.
ملأ الآلاف من مؤيديه صالة الوصول وتسلقوا الأسطح ووقفوا على الأعمدة المخصصة لحمل اللافتات كي تتسنى لهم زاوية رؤية أفضل، وهم يرددون هتافات التأييد ويذرفون دموع الفرح.
وعندما غادر الرجل الذي غزا الشيب رأسه ويلف عنقه بوشاح أحمر البناية وكان الحشد يتدافعون من حوله أخذ مكبر الصوت ليحثهم قائلا "واصلوا ثورتكم".
فاز حزب النهضة بأكبر عدد من المقاعد في أول انتخابات حرة تجرى في تونس بعد ذلك بتسعة أشهر، لتبدأ بذلك مناورة متوترة بين الفصائل المتنافسة مع تزايد الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين.
ولم يترشح الغنوشي لأي منصب عام إلا بعد سنوات، وهو نهج يميزه عن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، التي فازت في انتخابات الرئاسة بعد مرور 16 شهرا على انتفاضة الربيع العربي ولم تترك السلطة إلا حين أطاح بها الجيش.
لكن الغنوشي ظل الشخصية الرئيسية وراء حزب النهضة ذي النفوذ المتزايد.
ومع زيادة الانقسامات في 2013 وامتدادها إلى الشوارع، شعر العديد من التونسيين بالخوف من أن تمتد أعمال العنف التي أعقبت الثورة في ليبيا المجاورة إلى داخل البلاد أيضا.
وعمل الغنوشي والرئيس العلماني على تهدئة الشارع، وكان ذلك بمثابة نقطة انطلاق لوضع دستور جديد أقره البرلمان بفرحة واحتضنه السياسيون المتنافسون وهم يبكون.
وقال إن التونسيين نجحوا في القيام بثورة سلمية وتجنب حرب أهلية وتوصلوا إلى توافق. لكن بالنسبة للبعض، كانت التسويات مزعجة.
واتهم معارضو الإسلام السياسي الغنوشي بغض الطرف عن الجهاديين التونسيين الذين تدفقوا للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا ونفذوا اغتيالات في الداخل، وهو ما نفاه الغنوشي.
وفي غضون ذلك، هاجم العديد من أنصار الغنوشي قراره بدعم قانون مثير للجدل يمنح العفو للمسؤولين المتهمين بالفساد في عهد بن علي. وقال إنه بصفته ضحية سابقة للإقصاء السياسي، فإنه يعتقد أن تونس الجديدة يجب أن تشمل حتى أولئك المرتبطين بالنظام القديم.
لكن مع تعثر الاقتصاد التونسي وتدهور الخدمات التي تقدمها الدولة، ارتبط حزب النهضة بسياسات غير شعبية.
وسعى الغنوشي في نفس الوقت إلى إبعاد حزب النهضة عن الإسلام السياسي وإعادة تسميته باسم الإسلامي الديمقراطي وفصل مهمته السياسية عن أنشطته الاجتماعية والدينية.
وعندما ترشح الغنوشي لأول مرة لشغل منصب عام في الانتخابات البرلمانية عام 2019، كان أداء حزب النهضة هو الأضعف منذ سنوات لكنه كان لا يزال أكبر حزب لحصوله على حوالي ربع المقاعد.
وفاز بمنصب رئيس البرلمان لكن مع انقسام هذه المؤسسة ووجود اضطرابات داخل حزبه وتنازع الزعماء السياسيين أصبح الغنوشي بمثابة رجل عجوز في مأزق.
وكان صوت الغنوشي، وهو يجلس على المنصة الخشبية الحمراء لمخاطبة أعضاء البرلمان الجالسين على مقاعدهم الجلدية الخضراء،خافتا في كثير من الأحيان وكانت يداه ترتجفان بينما كان منافسوه يتحدوه أو يحاولون الإيقاع به.
وبعد مرور عام على إصدار سعيد الأمر بأن تطوق الدبابات البرلمان وتُغلق أبوابه، بات إرث الغنوشي نفسه على المحك.
(إعداد أيمن سعد مسلم ونهى زكريا للنشرة العربية - تحرير أحمد حسن)