وقع الاقتصاد العالمي ضحيّة أزمة اقتصادية لم نشهد لها مثيل خلال عام 2020 بفعل الإغلاقات التي أقامتها حكومات العالم للحد من انتشار فيروس كورونا آنذاك، واستنفرت البنوك المركزية والحكومات لاتخاذ إجراءات تحفيزية لم يشهد لها العالم مثيل عبر التاريخ. وقامت البنوك المركزية بخفض معدّلات الفائدة بشكل حاد، وأقرّت خطط برامج لشراء الأصول، في سبيل توفير سيولة كافية لإخراج الاقتصاد العالمي من أسوأ ظروف شهدها منذ الحرب العالمية الثانية. كما توجّهت حكومات الدول لضخّ تريليونات من الدولارات في الاقتصاد العالمي، لتشارك هي الأخرى البنوك المركزية في المهمّة "المستحيلة" لإنقاذ العالم من كساد اقتصادي، كان سيأخذنا لعصر أزمة عالمية تمتد لعقود.
وفعلاً، استطاعت البنوك المركزية بمساندة الحكومات من إخراج الاقتصاد العالمي من ركوده، وبدأ سلسلة النمو الاقتصادي التاريخية.
وبحسب مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي، حققت الولايات المتحدّة نمواً قياسياً الربع الثالث 2020 بلغت نسبته 33.8%، كما نما اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 12.6% لنفس الفترة بحسب بيانات اليوروستات الرسمية، كما أن الاقتصاد البريطاني حقق توسّعاً بلغت نسبته 17.6% بحسب أرقام مكتب الإحصاء الوطني البريطاني، وحقق اقتصاد اليابان نمواً بلغت نسبته 5.3%.
حققت الدول العظمى خلال الربع الثالث عام 2020 نمواً كبيراً أخرج الاقتصاد العالمي من أزمته، واستمر النمو الاقتصادي في الولايات المتحدّة طوال الفترة منذ الربع الثالث عام 2020 واستمر حتى الربع الرابع 2021.
لكن، لا شيء بالمجّان!
فارتفاع الإنفاق الحكومي الذي ترافق بأسعار فائدة متدنية للغاية وبرامج شراء للأصول، تسببت كلها بارتفاعات هائلة بالتضخّم. وبدأ التضخّم بالخروج عن السيطرة شهر مارس 2021، وارتفع فوق 2% بحسب مؤشر أسعار المستهلكين الصادر من مكتب إحصاءات العمل الأمريكي. لكن، لا أحد شعر بالقلق آنذاك من ارتفاع التضخّم إلى 2.6%. لكن، تسارع ارتفاع التضخّم ليصل نهاية عام 2021 إلى 7%، وهذه القيمة من التضخّم دقّت ناقوس الخطر في أكبر اقتصاد في العالم، اقتصاد الولايات المتحدّة الأمريكية الذي يزيد حجمه عن الـ 20 ترليون دولار.
من هنا، نرى بأن أزمة التضخّم لم تكن فقط نتاج التوتّرات الجيوسياسية الروسية الأوكرانية! بل هي عبارة عن آثار جانبية لسياسات البنوك المركزية والحكومات لإخراج العالم من أزمة 2020. كذلك، تضررت سلاسل التوريد والإمدادات تسببت بارتفاع أسعار الواردات وتكاليف الصادرات، مما فاقم أزمة التضخّم.
عام 2022، تجددت قفزات التضخّم، حيث تسببت الأزمة الروسية الأوكرانية باندفاع صاعد حاد لأسعار النفط والغاز والغذاء والعديد من السلع الاستهلاكية والمواد الأساسية الأخرى، ليصل التضخّم في الولايات المتحدّة لأعلى مستوى منذ نحو 40 عاماً عند 8.5%، وارتفع التضخّم في منطقة اليورو إلى أعلى قيمة على الإطلاق 7.5%، فيما عانت المملكة المتحدّة وصول مؤشر أسعار المستهلكين إلى نسبة لم تشهدها بريطانيا منذ أوائل تسعينات القرن الماضي عند 7%.
ملاحظة: معدّلات التضخّم المشار لها هي بحسب مؤشر أسعار المستهلكين بحسب آخر البيانات الرسمية المتاحة بتاريخ 14-04-2022
وهنا دقت طبول أزمة اقتصادية!
جُن جنون البنوك المركزية، وتوجهّت لتشديد السياسات النقدية، برفع في الفائدة، شملت الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وبنك إنجلترا المركزي وكذلك بنك كندا المركزي وعدّة بنوك أخرى. وهذا من أجل محاولة الحد من ارتفاع التضخّم، لكن لا يبدو بأن التضخّم سينخفض سريعاً، فالتوقعات ما زالت تشير لاحتمال بقاء التضخّم مرفعاً في ظل تعافي قطاعات الوظائف عالمياً، ونمو الأجور بشكل متسارع في دول عظمى، إلى جانب استمرار أزمة سلاسل التوريد والأزمة الجيوسياسية شرق أوروبا.
وانعكست عوائد السندات الأمريكية في الأوّل من شهر أبريل الجاري 2022، لتقول لنا: احذروا، الولايات المتحدّة ستسقط في انكماش اقتصادي في أي لحظة خلال الـ 18 شهراً المقبلة! حيث أصبحت عوائد السندات استحقاق عامين أعلى من عوائد سندات الحكومة استحقاق عشرة أعوام، وهذه حالة نبّات بركود اقتصادي في كل مرّة حصل فيها ركود اقتصادي منذ عام 1955.
الأزمة قادمة لا محالة
تضخّم مفرط، تباطؤ اقتصادي في عديد من الدول، انكماش دول أخرى، توقعات نمو اقتصادي عالمي لا يتعدّى 3.5%، آخذين بالاعتبار أن حد فاصل الركود والنمو في الاقتصاد العالمي هو قيمة 3.0% وليس الصفر!
كل ما يحصل من حولنا الآن يقول لنا بأن الركود الاقتصادي قادم، والبنوك المركزية سترفع الفائدة على الأرجح مراراً وتكراراً هذه السنة، وقد نشهد رفع في الفائدة بالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بـ50 نقطة أساس أكثر من مرّة واحدة.
الأزمة ليست كأزمة 2020، بل هي أسوأ!
عام 2020، شعرنا بالركود الاقتصادي، لكن ما خفف من شعورنا السيء هو أن الأسعار انخفضت وهبطت معدّلات التضخّم. لكن في الأزمة الاقتصادية القادمة، الأسعار ارتفعت بشكل جنوني، والنمو الاقتصادي سيتباطأ أو حتى أنه سينكمش، بالتالي، ستكون ضربة من سيف ذو حديّن، حد ضعف الأعمال وحد ارتفاع الأسعار.
لذلك، سيبدأ المستهلكون بالشعور بانخفاض القدرة الشرائية للنقد، فما تشتريه اليوم بـ100 دولار، قد يكلّفك العام المقبل أكثر من 110 دولارات. لكن في نفس الوقت، سيكون توفير الـ 110 دولارات أو حتى الـ100 دولار صعباً. هذه الحالة شبيهة بما مرّ به الاقتصاد العالمي ثمانينات القرن الماضي، وهي حالة الركود التضخمّي، والتي فيها ترتفع الأسعار والتضخّم بشكل مفرط، مرافقاً لانكماش في الاقتصاد.
إن كنت تمتلك دولاراً، فاحذر! فهذا الدولار ستصبح قيمته الشرائية أقل! ويجب عليك اتخاذ إجراءات للحد من مخاطر ذلك، فانخفاض القدرة الشرائية للمستهلك الأمريكي انخفضت 8.5% خلال 12 شهر انتهت بشهر مارس الماضي 2022، والمستهلك البريطاني انخفضت قدرته الشرائية 7%، والمستهلك في منطقة اليورو 7.5%. فما بالك في انخفاض القدرة الشرائية في المنطقة من حولنا؟!
كيف نحمي أنفسنا وأموالنا؟
تنمية مصادر الدخل وتغطية مخاطر انخفاض القدرة الشرائية هي الحل، فابدأ التفكير بإيجاد استثمارات، أو قم بالبحث عن أعمال بدوام جزئي من الآن. وإن كنت من الذين لديهم ادخارات مصرفية، فاحذر، الفوائد حتى لو ارتفعت خلال 2022، فلربما ستنخفض القدرة الشرائية للنقد بأكثر من العائد المتأتّي من الادخار والاستثمار بأدوات الدين مثل السندات.
فالحل يكمن في جزئين، الأوّل إيجاد مصادر دخل جديدة وبدء الاستثمار، والثاني هو حماية ما نملكه من أموال.
كلاسيكياً، اعتبر الذهب أحد أدوات تغطية مخاطر انخفاض القدرة الشرائية للنقد، واعتبرت دراسات أخرى في قسم الدراسات لدينا بأن الاستثمار في الأسهم قد يكون خياراً مهمّا للإضافة قيمة نقدية للادخارات من خلال استثمار جزء من هذه الأموال لتعويض الانخفاض في القدرة الشرائية.
في النهاية، يجب أن نعلم بأن الاستثمار يحمل مخاطر، لذلك من الجيد اتخاذ القرار بعد دراسة متأنية عن المخاطر المترتّبة على الاستثمار.