هل أسواق المال خاضعة لإدارة الحيتان؟ (الحقيقة والأسطورة)

ربما يكون هذا المقال من سلسلة المقالات الصادمة لكثير من المتداولين حيث أننا  اليوم بصدد مناقشة  أحد  الأساطير التي  ارتقت إلى مرتبة الحقائق المعلومة من السوق بالضرورة في حين أنها ليس لها اي اصل من الصحه بل على العكس تساهم وبشكل غير مباشر في تكبد المتداولين خسائر كبيرة ومتكررة.

  ولا شك أن مسامعك قد التقطت العديد من العبارات التي تتردد في مجتمع المتداولين في أسواق المال على اختلافها مثل  ( الحيتان اشتروا من مستويات كذا أو الحيتان سبب انهيار السهم كذا )

(أو لقد اشتركت في قناة كذا  الخاصة بالحيتان للدخول والخروج معهم وتحقيق الأرباح)

(أو لقد اشتريت مؤشر يوضح  مناطق دخول الحيتان)

 فمن هو الحيتان  وما هو دورهم في أسواق المال وهل فعلا يسيطرون على الأسواق ويلتهمون أموال صغار المتداولين أو الأسماك الصغيرة في السوق؟

الحيتان أو market makers  أو في بعض الأسواق الخليجية يسمونهم بالهوامير وهي إشارة أيضا إلى الأسماك الكبيرة والتي تبتلع كل من هم  أصغر منها في محيط السوق العميق  

حيث تقول الاسطورة إن تلك الكائنات المفترض أنها تعيش في أسراب مجتمعة داخل الأسواق برؤوس أموال ضخمة  تتحكم في الأسعار  تبيع من أعلى المستويات فينهار السوق ثم تعيد الشراء من أدنى المستويات فيرتفع السوق في حين أن الأسماك الصغيرة (صغار المتداولين أصحاب المحافظ الصغيرة) هم ضحايا تلك المؤامرة وأن على تلك الاسماك اما ان تعيش متطفلة على بقايا هؤلاء الحيتان خادمه لأسرابهم  أو أن يكون مصيرها في بطن الحوت نفسه

وعلى الرغم من شهرة هذه الاسطوره وتواترها بين جموع المتداولين في أسواق المال إلا أن سقوطها لا يحتاج لمحاضرة من محافظ البنك الفيدرالي الأمريكي أو  خطاب من رئيس بورصة نيويورك .

بل إن طالب في كليه التجارة او حتي اي شخص عادي ملم بمبادئ اقتصادية بسيطة  يستطيع  أن يسقط هذه الاسطوره للأبد..... فقط من خلال طرح أسئلة بسيطة والإجابة عليها  

السؤال الأول : كيف ترتفع أسعار السلع وكيف تنخفض؟

الإجابة: ترتفع أسعار السلع وتنخفض وفقا لقانون العرض والطلب  على النحو الآتي

عرض

عرض = طلب = ثبات الأسعار = اتجاه عرضي said way

عرض > طلب = انخفاض الأسعار = اتجاه هابط down trend

وهذه هي الاتجاهات الثلاث الرئيسية في أسواق المال والذي تحدث عنها داوجونز منذ أكثر من مائة عام

والاتجاهات هي سلسلة من القمم والقيعان المتتالية فإن كانت صاعدة كان الاتجاه صاعد = طلب> عرض

وإن كانت هابطة = عرض > طلب و الاتجاه العرضي هو تساوي الكفتين فلا جديد هنا

يقاطعني أحدهم من  معتنقي الأسطورة ويقول:

بلي صحيح فالحيتان تشتري بكميات كبيرة جدا فيزيد الطلب على العرض فيرتفع السوق والعكس صحيح في الانخفاض

هنا سنعود ونسأل سؤالا ابسط من السؤال الأول

لكي تتحكم أي قوي في سعر السلعة ماذا عليها أن تفعل ؟

الإجابة ببساطة هي الاحتكار

مثال  

نفترض انك تريد ان تتحكم في سعر  الأسماك في مدينة  غزة مثلا لابد من أن تحتكر سوق الأسماك في غزة سواء بأن تشتري كل مخزون الأسماك  وكل قوارب الصيد أو يكون أصحاب الأسماك والقوارب كلهم في تحالف معك حيث لا تباع سمكه في السوق إلا بإذن هذا التحالف وبالسعر الذي يحدده .

فلا توجد منافسة هنا في الأسعار ولكن اتحاد الحيتان  في ناحية امام المستهلك المسكين في الناحيه الاخري والذي ليس لديه خيار سوى أن يشتري الأسماك بالسعر الذي يحدده تحالف الحيتان أو أن  لم يرتضي السعر أن يقرر هو أن يصنع تحالف مضاد ويقوم بحمله للاستغناء عن الاسماك فيقل الطلب على عليها  فلا تستطيع الحيتان إلا أن تقوم بخفض الأسعار

ولا شك أنك قد سمعت بقصص مشابه بشكل أو بآخر أو أنك قد انضممت إلى حملة مقاطعة بعض المنتجات التي زادت أسعارها بشكل مبالغ فيه

اذن فحتي في حالات الاحتكار لا تستطيع الحيتان إلا أن تتحكم في العرض دون الطلب ولو أن جموع المستهلكين اتفقوا على مقاطعة الأسماك ليتحولوا بدورهم إلى حوت كبير يحتكر الطلب فينخفض الطلب جدا ويزيد الضغط على حيتان العرض فيقومون  بزيادة العرض لتعويض الطلب الضعيف ( حوت يصارع حوت في حلبة مغلقة )

لكن أسواق المال ليست هكذا أبدا فهي حلبة واسعة جدا ومفتوحة  فمن يستطيع أن يتحكم في مؤشر داوجونز الصناعي؟؟ من يستطيع أن يحتكر الناسداك؟؟؟ أي تحالف هذا الذي يستطيع أن يسحب من سوق العملات الرقميه 2 تريليون دولار في بضعه اشهر ؟؟

 إن من يقول هذا ليس له أي دراية بآليات عمل الاسواق فلا شك هناك محافظ ضخمة وصناديق استثمارية وتحالفات ولكنها ليست ابدا على قلب رجل واحد ولا تبيع من مكان واحد ولا تشتري من مكان واحد وهي أيضا تكسب وتخسر لا شك في ذلك

فلو افترضنا أن  العرض 10% والطلب 90 % لارتفعت الأسواق بجنون وفي وقت قصير وإلى  مالا نهاية حتى تقل معدلات العرض عن الطلب وهذا الأمر يحدث أحيانا  ولكن على الإطار الزمني القصير لمدة ساعة او ساعتان او ما يعرف pump and dump

ويحدث ايضا في الأسواق الناشئة والاسهم الصغيرة جدا لكن هذا لا يحدث عادة في الأسواق الكبيرة أو البورصات العالمية أو الأسهم الثقيلة نسبيا حتي في الأسواق الناشئة، فهي ترتفع او تنخفض  بنسبه بسيطة تمثل الفرق بين العرض والطلب  وعلى مدى زمني معتبر وهو فرق بسيط تماما كالفارق بين فريقي  ريال مدريد وبرشلونه في كره القدم  في كل من الفريقين نجوم وحيتان واساطير لكن لا يستطيع أحدهم أن يحتكر البطولات طوال الوقت أو حتى أن يكسب خصمه العنيد في كل المباريات

إذن فلماذا سمي المشترون بالثيران والبائعون بالدببة لأن الثيران تدفع الأسواق لأعلى والدببة تهبط به لأسفل والمنتصر بين هذين الوحشين القويين هو من يدفع السوق في اتجاهه.

 إلا أن ربما هذا الطرح لن يروق لكثير من معتنقي الأسطورة وعاشقي نظرية المؤامره فيخرجون آخر ما في حقائبهم من حجج قائلين :-

( نعم ما قلته صحيح ولكن الحيتان يتعمدون الدخول والخروج على مراحل وذلك حتى لا يشعر صغار المتداولين بنواياهم في تغير اتجاه السوق وفي نفس الوقت يصطادون أكبر قدر منهم فيشترون منهم في القيعان ويبيعون لهم في القمم )

وياله من طرح عجيب فهو يعترف أخيرا بما قاله داو جونز أن الأسواق تتحرك في اتجاهات ومن هنا استنارت في ذهنه فكرة البيع على مراحل من قبل الحيتان المزعومة

إلا أنه  لا يزال مصرا على فكرة المؤامرة وان حيتان قد اجتمعت على البيع والشراء على مستويات معينة ليس هذا فقط بل قررت تقسيم محافظها علي اكثر من مستوي وعلي اكثر من سوق وعلى اكثر من قطاع أو لو في سوق العملات الرقميه مثلا على أكثر من عمله وهذا طبعا ضرب من الخيال حيث إن هناك ارتباط بين الأسواق كما رأينا في موجة الهبوط الأخيرة حيث هبط الداوجونز و هبط سوق العملات الرقميه وهبط السوق السعودي والعديد من الأسواق في وقت واحد ؟؟؟ فمن أسقط كل هؤلاء

في نفس الوقت ما الذي يجبرني انا كحوت جشع ان ابيع مخزوني المليوني من  البيتكوين مثلا مره ب 69 الف دولار ومره ب 50 ألف وأخرى ب 40 الف في الوقت الذي استطيع ان افرغ فيه كل مراكزي باعلي سعر مره واحده طالما أنا على علم ودراية بأن الهبوط مستمر وأننا كتحالف حيتاني مثلا نستهدف مستوى 10 آلاف دولار

فلماذا  تشتري قبل هذا المستوى وأفوت أرباح طائلة؟

 وما يضرني إن هبط السوق مرة واحدة 80 أو 90 % في يوم واحد طالما أنني بعت في أعلى سعر؟

ولكنني لا استطيع ان افعل ذلك لانني لست محتكرا للسوق فلا انا املك 90 % من عملات البيتكوين ولا انا أستطيع ان امنع غيري من البيع او الشراء حتى ولو كان في محفظته دولارا واحدا

فاذا كان الحوت يبيع على مراحل فما يمنعك أن تفعل أنت؟

الحقيقة هي أن المشترين الثيران منهم الحيتان ومنهم دون ذلك ومنهم صغار المستثمرين وكذلك الدببة على شاكلتهم أيضا (قوة الفريقين متوازنة  اغلب الوقت ومتساوية في أحيان كثيرة كتلك التي يتحرك فيها السوق بشكل عرضي)

فتصور السوق أنه مقسم إلى فريقين (حيتان جائعة جشعة ورخويات مجني عليها ومسكينة) هو تصور ساذج ولكنه منتشر ليس بسبب منطقيته ولكن بسبب عاطفيته.

فغالبا ما يحدث سيما في مراحل الهبوط الرئيسية أن المتداولين أصحاب الخبرات الضعيفة كثير ما يخسرون نسبة كبيرة من محافظهم ولكنهم للأسف الشديد قليلون ما يتحملون مسئولية تلك الخسائر  بجسارة وشجاعة

ومن ثم يعيدون حساباتهم ويكتشفون اخطائهم لتجنبها في المستقبل ولكنهم عوضا عن ذلك يلتمسون  لأنفسهم الأعذار والمبررات.

من ضمن هذه المبررات هي فكرة المؤامرة الحيتانية الشهيرة

فانا  لم أخسر لأنني لم التزم بوقف الخسارة أو أنني ليس لدي إدارة مالية سليمة  ولكنني خسرت لان الحوت الشرير تدخل بقواه السحرية وقلب السوق راسا على عقب فهذا السوق خلق للحيتان فقط وليس لنا مكانا فيه.. أي هراء هذا

وبذلك تكون المصيبة مصيبتان ( خسائر فادحة + عدم تعلم ) = خسائر متكررة = خروج من السوق بلا رجعة

إذن من هؤلاء الفئة التي تبيع من القمم وتشتري من القيعان؟ بالتأكيد ليس الحيتان أو market makers  

ولكن  ما يسمى بالمال الذكي  smart money

والذكاء هنا ليس حكرا على أحد سواء مستثمر طويل الأجل أم قصير أو متوسط الأجل سواء كانت محفظته منتفخة أو خاوية ولكن ربما أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة لديهم ميزة نسبية وهي أنهم يقومون بتكليف أفضل المتخصصين لإدارة أموالهم فهم يشترون الذكاء بالمال وربما هذه الميزة لا تكون متاحة لأصحاب رؤوس الأموال الصغيرة الذين يتعين عليهم تحصيل الكثير من العلم والخبرة بأنفسهم

فعلي سبيل المثال أنا و كثير من المحللين انتهينا في أكتوبر السابق وما قبله إلى  ضرورة التخلص من البيتكوين فوق مستويات 60 ألف دولار

وقد كان هذا في التوقيت الذي ينعم فيه غالبية المتداولين بأرباح هائلة نتيجة صعود بعض العملات البديلة 1000%

وكان من الصعب جدا الإنصات إلى دعوات الخروج من السوق التي أطلقتها وغيري حيث كانت بوادر الضعف واضحة لأي محلل فني له خبرة معتبرة في الأسواق ولكن كان من الصعب الإنصات وسط صوت الاحتفالات بالأرباح  الصاخب في كل مكان

هنا يأتي دور المال الذكي والذي يدرك أن السوق وصل إلى مرحلة تصريف  distribution فهنا يبدأ المال الذكي في الخروج من السوق رويدا رويدا هذا الخروج التدريجي للمال الذكي  هي دائما ما تصنع الأنماط الانعكاسية الرأس والكتفين أو نموذج الوتد مثلا والذي رأيناه  في نهاية الاتجاه الصاعد للبيتكوين

 ( خروج المال الزكي صنع النموذج ومن ثم وبشكل تراكمي حدث الانعكاس )

في القيعان يحدث نفس الأمر حيث يكون السوق غارقا في التشاؤم واليأس والإحباط من الغالبية  فيبدأ المال الذكي في الدخول مرة اخري فيبدأ الاتجاه الهابط في التوقف ويأخذ السوق وقت طويل في الاتجاه العرضي يدخل فيه المزيد من المال الذكي ويحدث ما يسمى بالتجميع أو accumulation ويعود السوق مرة أخرى في الصعود في دورة جديدة  مع أجيال جديدة ......... وربما ..................... أساطير جديدة .

تحياتي