مر الذهب خلال الأشهر الماضية بموجة صعود لافتة، دفعت أسعاره إلى مستويات غير مسبوقة، حتى لامس مستويات قاربت 3500 دولار للأوقية في بعض العقود الآجلة. هذا الارتفاع جاء مدفوعًا بعدة عوامل، على رأسها حالة عدم اليقين الجيوسياسي، وتصاعد التوترات بين القوى الكبرى، وتخوفات من تباطؤ اقتصادي عالمي، فضلًا عن اتجاه البنوك المركزية – لا سيما في آسيا – نحو زيادة احتياطاتها من الذهب.
لكن مع كل موجة صعود تأتي تساؤلات مشروعة: هل بلغ الذهب ذروته؟ هل هذا هو الحد الأقصى الذي يمكن أن تصله الأسعار، أم أن الظروف ما زالت مواتية لمزيد من الارتفاعات؟
شهية المخاطرة تعود.. والذهب يتراجع مؤقتًا
التراجعات الأخيرة في أسعار الذهب، مثل انخفاضه إلى 3278 دولارًا للأوقية خلال هذه اللحظات من تعاملات اليوم، ليست مؤشرًا بالضرورة على انقلاب الاتجاه الصاعد، بل قد تكون تصحيحًا طبيعيًا نتيجة لتحسن مؤقت في شهية المخاطرة في الأسواق العالمية. فعندما تبدأ المؤشرات الاقتصادية في الظهور بشكل إيجابي، أو عندما تتراجع التوترات الجيوسياسية، يبحث المستثمرون عن أصول تحقق عائدًا أعلى مثل الأسهم، على حساب الذهب الذي لا يدر عائدًا مباشرًا.
في الأسبوع الأخير، ساهمت عدة عوامل في هذا التراجع: إشارات على احتمالية تهدئة التوتر بين الولايات المتحدة والصين، تصريحات من إدارة ترامب حول مفاوضات تجارية قريبة، وكذلك تلميحات إلى عدم رفع الرسوم الجمركية بشكل فوري. هذه المعطيات دفعت المستثمرين للتقليل من تمركزهم في الذهب، لصالح أسواق الأسهم والعملات.
التحليل الفني يوضح احتمالات التراجع والارتداد
فنيًا، ما زال الذهب يتحرك ضمن قناة صاعدة على المدى المتوسط، رغم الضغوط الحالية. المستوى الفني المحوري حاليًا يقع عند 3200 دولار، وهو يعتبر دعما رئيسيا في حال استمرار عمليات التصحيح. وإذا فشل الذهب في الحفاظ عليه، قد نشهد هبوطًا نحو مستوى 3100 وربما 3000 دولار.
أما على الجانب الصاعد، فالمقاومة التالية تقع عند 3350 ثم 3500 دولار، وهو مستوى الذروة السابقة.
التوترات الجيوسياسية حاضرة دائمًا
رغم تراجع المخاوف بشكل طفيف، إلا أن المشهد الجيوسياسي لا يزال عرضة للاشتعال في أي لحظة. التقارير التي تشير إلى احتمالية مواجهة عسكرية أميركية - إسرائيلية مع إيران بسبب برنامجها النووي، وزيادة التحركات العسكرية في البحر الأحمر ومضيق تايوان، كلها عوامل يمكن أن تعيد الذهب إلى مسار الارتفاعات القوية.
كما أن الأزمة الروسية الأوكرانية لا تزال بعيدة عن الحل، والتوتر بين موسكو والغرب مرشح لمزيد من التعقيد. وبالتالي، يبقى الذهب أحد أهم أدوات التحوط في وجه هذه المخاطر.
سياسات البنوك المركزية.. السلاح ذو الحدين
الاتجاه العالمي نحو تثبيت أو خفض أسعار الفائدة لاحقًا هذا العام قد يكون عامل دعم إضافي للذهب. فالفائدة المنخفضة تضعف من جاذبية السندات والأصول المدرة للدخل، وتعزز من جاذبية الأصول البديلة وعلى رأسها الذهب.
كما أن توجه البنوك المركزية، خصوصًا في الصين والهند وروسيا، نحو تعزيز احتياطاتها من الذهب لدعم عملاتها واستقلال قراراتها النقدية، يُبقي الطلب على الذهب قويًا من المؤسسات.
الذهب لا يُعد فقط ملاذًا آمنًا، بل هو في حد ذاته مؤشر نفسي لحالة الأسواق. ارتفاعه الحاد يعني قلقًا متزايدًا، بينما تراجعه قد يدل على ارتياح مؤقت في المزاج العام. لكنه في الحالتين، يبقى أحد الأصول الأساسية التي يلجأ إليها المستثمرون حين تزداد الغيوم في الأفق.
خلاصة المشهد: الذروة لم تأتِ بعد
رغم التراجعات الأخيرة، من المبكر جدًا القول إن الذهب قد بلغ ذروته. العوامل التي دفعت الذهب للارتفاع ما زالت قائمة، وربما تزداد حدة في النصف الثاني من 2025.
وبالتالي، قد تكون التراجعات الحالية فرصة لإعادة التمركز، قبل جولة جديدة من الصعود، خصوصًا إذا عادت التقلبات السياسية والاقتصادية لتتصدر المشهد.
قد لا يكون "الذهب عند الذروة"، بل ربما نحن فقط في استراحة قصيرة قبل فصول جديدة من هذه الحكاية المتواصلة.