لقد بدأ الاقتصاد العالمي العام الجديد في الاتجاه الخاطئ حيث دفع الانخفاض الحاد في أسعار النفط منطقة اليورو نحو انكماش الأسعار في شهر ديسمبر 2014 وأدى إلى تباطؤ كبير لمعدل التضخم في اليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وما يدعو للقلق أكثر هو الإشارات المتزايدة لتأثير هذه الضغوط الانكماشية على الأجور وبدرجة أقل على أسعار الأصول. ويقود هذا الأمر المستثمرين العالميين إلى مزيد من التحوط ضد انكماش الأسعار من خلال شراء السندات الحكومية طويلة الأجل، مما يؤدي إلى انخفاض الأرباح إلى مستويات قياسية. مستقبلا وما لم يتم إيقاف دوامة الانكماش هذه، فيرجح أن يدخل الاقتصاد العالمي في فترة طويلة من انكماش الأسعار أو ما أطلقنا عليه الانكماش الكبير.
وكنا قد حذرنا مسبقا من مخاطر الانكماش عبر سلسلة من المقالات الاقتصادية خلال السنة الماضية (أنظر مقالاتنا بتاريخ 15 يونيو 2014 و 24 أغسطس 2014 و 21 أكتوبر 2014 و 7 ديسمبر 2014 و 21 ديسمبر 2014).
اليوم، فإن الانكماش العالمي صار حقيقة لا جدال فيها حيث انزلقت منطقة اليورو إلى مرحلة التضخم السلبي في شهر ديسمبر 2014 (-0,2%) على إثر انخفاض أسعار الطاقة. وفي ذات الوقت، سجلت المملكة المتحدة أضعف معدل تضخم (0,5%) منذ عام 2000 بينما تباطأ التضخم في الولايات المتحدة إلى نسبة 0,8% وهو أشد تراجع شهري له في ست سنوات.
وفي اليابان، تخطى معدل التضخم بالكاد عتبة الصفر (0,7%) في شهر نوفمبر 2014، باستثناء التأثير المؤقت لرفع ضريبة الاستهلاك في أبريل. مستقبلا، من المتوقع أن تظل منطقة اليورو في وضعية انكماش الأسعار طوال عام 2015 رغم تبني البنك المركزي الأوربي لبرنامج التيسير الكمي الموسع الخميس الماضي. ويُتوقع أن تسقط اليابان مجددا في مرحلة الانكماش حيث يؤثر انخفاض أسعار الطاقة على أسعار باقي المواد الاستهلاكية. كما يُتوقع أن تشهد كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة تضخماً سلبياً وذلك على الأقل لفترة من عام 2015. وهذا قد يعني أن أكثر من نصف الاقتصاد العالمي سيعيش مرحلة الانكماش خلال 2015.
وما يدعو للقلق أكثر هو أن هذه التحولات الانكماشية العالمية بدأت في التأثير على سلوك تحديد الأجور عبر العالم حيث انخفض معدل الأجور للساعة في الولايات المتحدة بنسبة 0,2% على أساس شهري في ديسمبر، وعلى نفس المنوال، انخفض معدل الأجور بنسبة 0,1% في المملكة المتحدة على أساس شهري في نوفمبر. وتتوفر بيانات منطقة اليورو عن معدل الأجور في الساعة على أساس ربع سنوي فقط مع فارق زمني كبير، لكن آخر البيانات المتوفرة تشير إلى زيادة معتدلة (1,2%) خلال الربع الثاني من 2014. وشهد معدل الأجور للساعة في اليابان نموا طفيفا للغاية في شهر نوفمبر 2014.
ويشير هذا الضعف في نمو الأجور إلى أن التوقعات المستقبلية بشأن الانكماش بدأت فعلا في التأثير على سلوك تحديد الأجور. وإذا ترسخ هذا السلوك، فإن التأثير الإيجابي لانخفاض أسعار النفط على الاستهلاك ستقابله توقعات منخفضة للدخل المستقبلي، وهو ما من شأنه وضع مزيد من الضغوطات على الطلب الإجمالي الضعيف أصلا. وبالتالي، فإن تأثير انخفاض أسعار النفط على النمو سيكون سلبيا بالتأكيد.
كما تتزايد أيضا الدلائل بشأن تأثير الضغوط الانكماشية على أسعار الأصول. وتشير أحدث البيانات المتوفرة إلى انخفاض أسعار المنازل في الصين ومنطقة اليورو واليابان وسنغافورة، وإلى تباطؤ نمو هذه الأسعار في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. مستقبلا، من المرجح أن تنخفض أسعار المنازل أكثر حيث يترسخ كل من الانكماش وانخفاض نمو الأجور.
ففي لندن، على سبيل المثال، يتوقع سماسرة العقارات أن تنزل أسعار المنازل بنسبة 5% وذلك بحسب المعهد الملكي للمساحين القانونيين البريطاني. بالإضافة لذلك، انخفضت أسعار الأسهم العالمية بحوالي 5% منذ الطفرة التي شهدتها في بداية يوليو 2014 حسب مؤشر مورغان ستانلي للأسواق المتقدمة والناشئة العالمية. ورغم أن هذا الانخفاض يظل ضمن نطاق التقلب العادي، إلا أنه يشير إلى تأثر تسعير أسواق الأسهم بوقع الانكماش على النمو العالمي.
ختاما، فإن الانكماش بدأ ينعكس في انخفاض أسعار المواد الاستهلاكية العالمية وفي تدني الأجور ، وبدرجة أقل في التراجع الطفيف لأسعار الأصول. وما لم تقم الحكومات عبر العالم بتحفيز الطلب الإجمالي عن طريق سياسات نقدية مناسبة، فمن المرجح أن تستمر هذه التحولات الانكماشية خلال عام 2015، بل وربما لأبعد.