ستشهد المملكة المتحدة يوم 7 مايو المقبل إجراء الانتخابات البرلمانية العامة. وحسب أحدث استطلاعات الرأي فإن الحزبين الرئيسيين في المشهد السياسي متعادلان في نسبة الأصوات (حاز كل من حزب العمال وحزب المحافظين على حوالي 33% من الأصوات) بينما من المتوقع أن يرتفع تمثيل الأحزاب الصغيرة في البرلمان. وتُجمع التوقعات على توجه البلاد نحو برلمان معلق حيث لا تعطي التوقعات المغايرة إمكانية حصول حزب المحافظين أو الحزب العمالي على أغلبية المقاعد سوى بنسبة 9%، وهو ما يرجح حدوث مفاوضات مطولة بعد الانتخابات. وترجّح التوقعات المغايرة بشكل طفيف إمكانية تكوين حكومة أقلية أو حكومة ائتلافية يقودها حزب العمال (احتمال بنسبة 55%). وتكمن أهم الاختلافات حول السياسات الاقتصادية التي يتبناها الحزبان الرئيسيان في خططهما للتقشف المالي، حيث يسعى حزب العمال لتنفيذ سياسة التقشف بوتيرة أبطأ من حزب المحافظين. وبناءً على السياسات المعلنة من حزب العمال، فإن من المرجح أن تقود هذه السياسة إلى إبطاء وتيرة ضبط الأوضاع المالية، ما من شأنه أن يشكل نتيجة إيجابية للاقتصاد والأسواق المالية رغم وجود شكوك كبيرة حول إمكانية تحقيق هذه النتيجة.
في الفترة التي سبقت الانتخابات الماضية سنة 2010، كانت المملكة المتحدة تشهد عجزا ماليا وصل إلى نسبة 10,8% من الناتج المحلي الإجمالي، ووصل الدين العمومي إلى نسبة 66% من الناتج المحلي الإجمالي. وواجه تحالف حزب المحافظين والحزب الليبرالي الديمقراطي اختيارا صعبا ما بين (أ) تنفيذ سياسة التقشف من أجل التخفيف من مخاطر حدوث أزمة مالية على أن يكون الثمن هو انخفاض النمو أو (ب) عدم تنفيذ سياسة التقشف، ما من شأنه أن يحافظ على النمو مع مخاطرة حدوث أزمة مالية شبيهة بتلك التي ضربت اليونان وإيطاليا وإسبانيا. وارتأى التحالف أن الفوائد التي سيجنيها من تجنب حدوث أزمة مالية تفوق تكلفة انخفاض النمو في المدى القصير. وقرر تنفيذ برنامج التقشف على أمل القضاء على العجز بحلول عام 2015. إنّ التقشف يعني انخفاض الإنفاق وارتفاع الضرائب، وهو ما من شأنه أنّ يقلص الطلب الإجمالي ويؤدي بذلك إلى إضافة عبء مالي مثبّط للنمو.
نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي
(%)
1 عبء السياسة المالية هو تأثير ضبط الأوضاع المالية على
نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي.
المصادر: صندوق النقد الدولي وتحليلات دائرة الاقتصاد بمجموعة QNB
خلّف برنامج التقشف تأثيرا كبيرا على الاقتصاد البريطاني حيث قلّص ما يقدّر بنسبة 2% من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال عامي 2010 و2011. لكن تم التخفيف من حدة هذا التأثير عن طريق تليين السياسة النقدية، وذلك من خلال اعتماد أسعار فائدة قاربت الصفر وجولات عديدة من التيسير الكميّ من قبل البنك المركزي الإنجليزي. وتم تخفيف برنامج التقشف في عام 2012 مع ركود الاقتصاد، مما أدى إلى الحد بشكل كبير من عبء ضبط الأوضاع المالية على الاقتصاد. وقد لعب هذا الأمر دورا مهما في تعافي اقتصاد المملكة المتحدة مع اقتراب نهاية مدّة البرلمان الحالي. وبلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 2,6% في عام 2014، وأظهرت البيانات الصادرة خلال الأسبوع الماضي أن معدل النمو وصل 2,4% للسنة حتى الفصل الأول من عام 2015. كما انتعشت أسعار الأصول في المملكة المتحدة حيث اقترب سوق الأسهم من أعلى مستوياته على الإطلاق، وأصبحت أسعار المنازل في لندن ثاني أعلى أسعار في العالم بعد موناكو.
وكما كان عليه الحال في عام 2010، لا تزال الآراء المتباينة بشأن السياسة المالية تحتل حيزا مركزيا في انتخابات هذا العام. وتتفق جميع الأحزاب الرئيسية حول الحاجة إلى مزيد من ضبط الأوضاع المالية، غير أن هناك اختلافات كبيرة حول وتيرة هذه العملية. يخطّط حزب المحافظين لتحقيق فائض كلّي في الموازنة بنسبة 1% في السنة المالية 2019 – 2020، وذلك انطلاقا من عجز نسبته 4,1% في 2014 – 2015، في حين يعتزم حزب العمال نهج خطة مالية مخففة تهدف لخفض العجز الحالي في الميزانية (باستثناء الانفاق الاستثماري) بحلول عام 2017- 2018.
لكن هنالك متغيران أساسيان بالمقارنة مع آخر انتخابات في 2010. أولا، خطر حدوث أزمة مالية في المملكة المتحدة أقل بكثير حاليا مما كان عليه الأمر في عام 2010. فقد تقلّص العجز بما يقارب النصف ليصل إلى 4,8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2014، كما أن أسعار الفائدة على الديون السيادية للمملكة المتحدة منخفضة بشكل قياسي. وبالتالي، فإن الحاجة إلى التقشف تبدو أقل إلحاحا. ثانيا، لعبت السياسة النقدية دورا أساسيا خلال الفترة التي أعقبت انتخابات 2010. لكنّ الأمر مختلف اليوم، فمن المنتظر أن يقوم هذا الأخير بتشديد السياسة النقدية بأوائل العام المقبل. عندما تم تنفيذ برنامج التقشف في عام 2010، خففت السياسة النقدية من تأثير الضربة، لكن هذه المرة قد يجتمع تشديد كل من السياسة المالية و السياسة النقدية معا، ما قد يكون مدمرا حقا للنمو. وبالتالي، فإن ضبط الأوضاع المالية بوتيرة متدرّجة قد يكون مساعدا للنمو.
بعيداً عن هذه المناقشات المالية، تعهّد حزب المحافظين (في حال فوزه في الانتخابات القادمة) بإجراء استفتاء عام 2017 يحدّد بموجبه البريطانيون صراحة بقاءهم أو خروجهم من عضوية الاتحاد الأوروبي. وبالرغم من أن إجراءً من هذا القبيل قد يكون مزعزعاً للاستقرار إلى حدّ كبير، إلا أنه من غير المحتمل حالياً أن يمضي حزب المحافظين قدماً في هذا الاتجاه. فلتحقيق ذلك، سيحتاج الحزب إما لأغلبية محافظين (احتمال 8٪) أو ائتلاف محافظين (احتمال21٪) في شراكة ثنائية فقط مع حزب الاستقلال المعادي للاتحاد الأوروبي، ولا يتوقع لمثل هذا الائتلاف أن يحرز أكثر من 43٪ من مقاعد البرلمان استناداً لاستطلاعات الرأي الحالية. ومع ذلك، يمكن لحالة عدم اليقين التي خلقها احتمال إجراء استفتاء حول موقف المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي (الذي يعدّ أكبر شريك تجاري للمملكة المتحدة دون منازع) أن تكون مدمرةً للاقتصاد والشركات والأعمال التجارية.
ويبدو أن الناخبين البريطانيين قد تقبّلوا الاستنتاجات التي تفيد أن التقشف المالي والخروج من الاتحاد الأوربي قد يحملان أضرارا كبيرة. فوفقاً لأحدث استطلاعات الرأي، فإن حزب العمال هو الذي يرجّح له أن يقود الحكومة البريطانية المقبلة، إما كحكومة أقلية (احتمال 36٪) أو في ائتلاف (19٪). وعليه، فإن من المفترض أن تجيء نتائج الانتخابات أقرب تمثيلاً لسياسات حزب العمال. وهذا قد يعني تقشفاً أقل، وهو ما سيكون في صالح الاقتصاد والأسواق المالية وأسعار الأصول في المدى المتوسط.