أضاف البنك المركزي الأوروبي جرعة أخرى من التيسير النقدي في الثالث من شهر ديسمبر الجاري. وتشمل الإجراءات الأخيرة خفض سعر الفائدة على الودائع بمقدار 10 نقطة أساس، وهو ما يذهب بالسعر نحو المنطقة السلبية أكثر (-0.3%)، وتمديد برنامج التيسير الكميّ لمدة ستة أشهر حتى مارس 2017. غير أن هذا لم يكن كافياً لإرضاء الأسواق التي كانت تتوقع حافزاً أكبر من ذلك. ونتيجة لذلك، ارتفع اليورو بنسبة 3.1% مقابل الدولار الأمريكي في نفس ذلك اليوم. ولكن بالرغم من ذلك، فإن تباين السياسات النقدية العالمية المتمثل في تخفيف سياسة البنك المركزي الأوروبي وتشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، قد يدفع اليورو إلى أسفل مرة أخرى. ومن الممكن لانخفاض قيمة اليورو أن يكون مفيداً للنمو في منطقة اليورو من خلال تحفيز صادراتها. كما يمكن أن يساعد أيضاً في ارتفاع معدل التضخم مجدداً إلى قريب من المعدل المستهدف 2%.
لماذا يرى البنك المركزي الأوروبي بوجود حاجة لإضافة جرعة أخرى من الحوافز النقدية؟ فقد كانت أحدث البيانات في منطقة اليورو متفقة مع التوقعات إلى حد كبير، وربما يكون السبب الذي دفع بالبنك المركزي الأوروبي لذلك هو التوقعات المستقبلية المتشائمة بالنظر إلى المعوقات التي تواجه الأسواق الناشئة. فالغيوم التي تُلبد سماء الأسواق الناشئة حالياً بإمكانها أن تقود إلى نمو مخيب للآمال وإلى إطالة فترة انخفاض معدل التضخم عن المستوى المستهدف، وبناءً على ذلك قرر البنك المركزي الأوروبي أن يتحرك قبل تتحقق هذه المخاطر.
غير أن الأسواق كانت لديها توقعات عالية عجز البنك المركزي الأوروبي عن الوفاء بها. وكانت هذه التوقعات قد ارتفعت كثيراً نتيجة لتلميحات البنك المركزي الأوروبي السابقة للاجتماع، بما في ذلك خطابات رئيسه ماريو دراغي. وعندما لم تتحقق تلك التلميحات، جاءت ردود أفعال الأسواق قوية كما شهدناها في انخفاض الأسهم، وارتفاع عائدات السندات الأوروبية، وصعود قيمة اليورو في انتعاش هو الأقوى على الإطلاق.
ولكن قد يتحول هذا الارتفاع في قيمة اليورو مقابل الدولار الأمريكي إلى العكس قريباً مع ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة. فالتحركات قصيرة الأجل في اسعار العملات تهيمن عليها في العادة فروق أسعار الفائدة. ومع إقبال المستثمرين على اقتراض الأموال من البلدان منخفضة الفائدة واستثمارها في البلدان التي ترتفع فيها أسعار الفائدة، تؤدي تدفقات المحافظ الناتجة إلى ارتفاع قيمة العملات ذات العائد المرتفع مقابل العملات المنخفضة العائد.
منذ الأزمة المالية في عام 2008، انخفضت معدلات الفائدة قصيرة الأجل إلى الصفر في معظم الاقتصادات المتقدمة. لذا فقد ركز المستثمرون بدلاً من ذلك على تأثير التيسير الكمي على الحجم النسبي للميزانيات العمومية للبنوك المركزية الكبرى كمقياس بديل للأوضاع النقدية. وعلى وجه الخصوص، أصبح الفرق في معدل النمو بين الميزانية العمومية لبنك الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي دافعاً هاماً لسعر صرف اليورو مقابل الدولار. فإذا كانت الميزانية العمومية للبنك المركزي الأوروبي تنمو أسرع من بنك الاحتياطي الفيدرالي، فإن المستثمرين يفسرون ذلك باعتباره كمؤشر لتخفيف الأوضاع النقدية في منطقة اليورو بالمقارنة مع الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، تتراجع قيمة اليورو مقابل الدولار. وقد كان هذا هو الحال منذ أوائل 2015 (انظر تقريرنا الاقتصادي "سياسة "دراغينوميكس" تقدم تيسيراً كمياً لمنطقة اليورو").
مع الارتفاع الوشيك لأسعار الفائدة في الولايات المتحدة، يعود الفرق بين أسعار الفائدة على المدى القصير كدافع هام لحركة سعر صرف اليورو مقابل الدولار بالإضافة الى حجم الميزانيات العمومية والتيسير الكمي. وفي حين كان الدافع وراء حركة سعر الصرف لليورو مقابل الدولار يعتمد بشكل رئيسي على فروق معدل أسعار الفائدة قبل عام 2008 ثم بسبب الفروق بين أحجام الميزانية العمومية في الفترة من 2009-2015، فإن من المتوقع أن يلعب كـلا العاملين على حد سواء دوراً هاماً في المستقبل.
فارق أسعار الفائدة بين منطقة اليورو والولايات المتحدة ونسبة التغير في قيمة اليورو أمام الدولار
نمو الميزانية العمومية لبنك الاحتياطي الفيدرالي مقابل البنك المركزي الأوربي ونسبة التغير في قيمة اليورو أمام الدولار
فماذا يعني ذلك لعلاقة اليورو بالدولار مستقبلاً؟ من المتوقع أن يرفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة هذا الشهر والاستمرار في رفعها بوتيرة أربع جولات في السنة، كل واحد منها بمقدار 25 نقطة أساس. علاوة على ذلك، من المتوقع أن يبقي بنك الاحتياطي الفيدرالي على ميزانيته العمومية في حدود 4.5 تريليون دولار أمريكي. في ذات الوقت، من المتوقع أن يبقي البنك المركزي الأوربي أسعار الفائدة قريبة من الصفر حتى أواخر 2018، وأن يزيد حجم ميزانيته العمومية بـ 60 مليار يورو كل شهر لتنضاف إلى حجم الميزانية البالغ 2.7 تريليون يورو كما في نوفمبر 2015. وبناء على العلاقة التاريخية بين أسعار الفائدة وفوارق الميزانية العمومية وسعر صرف اليورو مقابل الدولار، فإن من شأن تباين السياسات النقدية أن يؤدي إلى تراجع قيمة اليورو أمام الدولار الأمريكي بنسبة 0.95 بنهاية عام 2016. وحتى إن افترضنا أن يأتي رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة بوتيرة أكثر تدرجاً (مرتين في السنة)، فمن شأن ذلك أيضاً أن يؤدي إلى تراجع اليورو إلى مستوى قريب من قيمة الدولار الأمريكي بنهاية 2016.
ومن شأن تراجع قيمة اليورو أن يدعم صادرات منطقة اليورو ويساعد على رفع مستوى التضخم إلى المعدل المستهدف. ومن شأن هذا العامل، بالتضافر مع الانخفاض في أسعار النفط والدعم من السياسة المالية، أن يساعد المنطقة على مواصلة التعافي في المدى القريب. لكن، لا يزال النمو مكبوحاً بسبب المشاكل البنيوية المرتبطة بتباطؤ المكاسب في الإنتاجية والتركيبة السكانية غير الملائمة. وتظل هذه المشاكل عالقة وبحاجة لإيجاد حلول لها، ولكن حلها لن يتحقق قطعاً بجولة أخرى من التيسير النقدي.