أضاف الاقتصاد الأمريكي 126 ألف وظيفة فقط في مارس 2015، مقارنة بمتوسط شهري قدره 281 ألف وظيفة على مدى الأشهر الستة الماضية. وقد تباين الرقم المعلن عن توقعات السوق بأكبر هامش منذ ديسمبر عام 2009. كما جاءت البيانات الأخيرة على النقيض من الأداء القوي لسوق العمل في الولايات المتحدة خلال الأشهر الأخيرة، ولكنها أيضا جاءت متسقة مع مؤشرات أخرى للنشاط الاقتصادي، والتي أظهرت تباطؤاً كبيراً في الربع الأول من عام 2015. ويتوقع معظم المراقبين الآن نمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة في الربع الأول بحدود 0-1%، وقدموا ثمانية أسباب لتفسير هذا التباطؤ.
1. قوة الدولار الأمريكي تلحق الضرر بالصادرات. منذ يونيو عام 2014، ارتفع مؤشر سعر صرف الدولار الحقيقي بنسبة 11,5%، الأمر الذي حدّ من القدرة التنافسية لصادرات الولايات المتحدة. ويرجع ذلك إلى برامج التيسير الكمي الضخمة في منطقة اليورو واليابان، فضلاً عن موجة من برامج التيسير النقدي التي اعتمدها ما يقارب أربعة وعشرين من البنوك المركزية حول العالم. وقد ظهرت بالفعل بعض الآثار السلبية لقوة الدولار الأمريكي، مثل التراجع الكبير الذي طرأ في طلبات التصدير لمؤشر آي أس أم منذ يونيو 2014. ومستقبلاً، بإمكان الارتفاع المتوقع في قيمة الدولار الأمريكي أن يظل عبئا على النمو في الولايات المتحدة وعلى أرباح الشركات.
2. الأوضاع المالية المشددة. على الرغم من تراجع عائدات السندات الحكومية الأمريكية في الربع الأول مقارنة بالربع السابق، تبيّن بعض المقاييس الأوسع نطاقاً أن الأوضاع المالية للأسر والشركات تزداد صعوبة. فقد اتسعت هوامش الفائدة بين البنوك وعلى قروض الشركات. وعلاوة على ذلك، يبدو أن أسعار المنازل قد تراجعت في عام 2015، وهو ما يقلل من قدرة الأسر على الحصول على قروض. وربما أسهمت الأوضاع المالية المشددة في تباطؤ الاقتصاد الأمريكي. كما أن رفع أسعار الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي يمكن أن يؤدي إلى مزيد من تفاقم الأوضاع المالية.
مؤشر سعر صرف الدولار الأمريكي الحقيقي وطلبات التصدير الأمريكية
(مؤشر)
المصادر: بنك الاحتياطي الأمريكي، ومعهد إدارة الإمدادات، وتحليلات مجموعة QNB
3. انكماش الأسعار. تراجع معدل التضخم السنوي في مؤشر أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة إلى ما تحت الصفر في يناير ووقف عند نسبة 0,0% في فبراير. كما أن هذا المعدل قد ينخفض أكثر في الأشهر المقبلة بسبب انخفاض أسعار النفط، مما يزيد من مخاطر الدخول في مرحلة طويلة من انكماش الأسعار. إن بإمكان انكماش الأسعار أن يعرقل النشاط الاقتصادي لأنه يشجع المستهلكين على تأجيل الإنفاق تحسباً لانخفاض الأسعار في المستقبل. كما أن الانكماش يرفع من أسعار الفائدة الحقيقية، وهو ما يلحق الأذى بالاستثمار. وفي حين يظل انكماش الأسعار يشكل خطر اً، إلا أنه لا توجد أدلة تذكر للقطع بأنه قد أمسك فعلياً بزمام الاقتصاد. فلا تزال الاستطلاعات ومؤشرات السوق حيال توقعات التضخم في الولايات المتحدة جيدة ولا تظهر فيها أي أعراض للانكماش. وعلاوة على ذلك، فإن الأجور الاسمية لا تزال تنمو، مما يوحي بأن مخاطر وقوع دوامة انكماشية في الأجور والأسعار لاتزال احتمالاً بعيداً.
4. انخفاض نمو الأجور. يرى بعض المحللين بأن البطء في نمو الأجور هو أحد الأسباب المحتملة للتباطؤ في النشاط الاقتصادي. ولكننا لا نرى دليلاً على ذلك. فقد ارتفع متوسط الدخل الحقيقي في الساعة بنسبة تقدر بحوالي 1,5% في الربع الأول لعام 2015 عما كان عليه في الربع الأخير من عام 2014. وعلاوة على ذلك، وبسبب الأداء القوي لسوق العمل في الولايات المتحدة، ارتفع عدد الأشخاص الذين تم توظيفهم في الاقتصاد بنسبة 0,4% خلال نفس الفترة. وهذا يعني أن القدرة الإجمالية على الإنفاق بين العاملين في الاقتصاد الأمريكي قد ارتفعت فعلياً، ولكن لم ينعكس تأثير ذلك بعد على الاستهلاك.
5. انخفاض أسعار النفط يدفع بالإنفاق الاستثماري إلى أسفل. من المتوقع أن ينخفض الإنفاق الرأسمالي في قطاع النفط والغاز بنسبة 20-40% في عام 2015 بفعل انخفاض أسعار النفط. وبالطبع، سيؤثر هذا التراجع في الاستثمار سلباً على الناتج المحلي الإجمالي. ولكن انخفاض أسعار النفط سيؤدي أيضاً إلى زيادة دخل المستهلكين المتاح للإنفاق (أي الدخل باستثناء الإنفاق على البنزين). ومع تمثيل الاستهلاك لحصة أكبر بكثير من الناتج المحلي الإجمالي بالمقارنة مع الاستثمار (68% مقابل 17%)، من المرجّح أن يكون التأثير الكليّ لانخفاض أسعار النفط على الناتج المحلي الإجمالي إيجابياً، وإن بفارق زمني بينهما. ففي حين أن ارتفاع الاستهلاك قد يستغرق بعض الوقت، إلا أن التراجع في الاستثمار سيتحقق بدرجة أسرع. ولذلك، فمن المرجح أن يعاني الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الأول بسبب الاستقطاعات من موازنة الاستثمار ولكننا نتوقع للإسهام الإيجابي من قطاع الاستهلاك أن يهيمن خلال الأرباع السنوية القادمة.
6. الطقس. لقد كان للطقس والعواصف الثلجية التي جاءت أكثر برودة من المعتاد تأثير معيق للنشاط الاقتصادي في الربع الأول، ولكن كان ذلك عاملاً مؤقتاً فقط. وفي الحقيقة، من المتوقع أن يرتد النشاط الاقتصادي للارتفاع بقوة خلال الأرباع السنوية القادمة مع انتعاش النشاط التجاري وتعويضه عن التعطيل الذي تسبب فيه الطقس.
7. الاضرابات. أدت الاضرابات العمالية في الموانئ الواقعة على الساحل الغربي للولايات المتحدة إلى تعطيل التجارة الخارجية وانخفاض نشاط الشحن. وقد كان لهذه الاضرابات تأثير سلبي محدود على الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، وليس من المتوقع أن تستمر الاضرابات خلال الفترة المتبقية من عام 2015.
8. العوامل الموسمية. درج نمو الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي خلال السنوات الأخيرة على أن يكون أضعف في الربع الأول من كل سنة بالمقارنة مع أرباع السنة الأخرى. فمن عام 2010 إلى عام 2014، بلغ متوسط النمو في الربع الأول نسبة 0,6% مقارنة مع 2,9% لأرباع السنة الأخرى. وقد يكون هذا راجعاً إلى خلل في إجراءات التعديلات الموسمية على البيانات، ومن غير المرجح أن يمتد تأثير ذلك لأبعد من الربع الأول.
وفي الختام، فإن التوقعات بالنسبة للاقتصاد الأمريكي تعتمد على ما إذا كان للدوافع الإيجابية للاقتصاد الأمريكي، والمتمثلة في انخفاض أسعار النفط، وارتفاع النمو في الأجور الحقيقية، واختفاء العوامل المؤقتة للربع الأول (الطقس، والإضرابات، والعوامل الموسمية) أن تتفوق على الآثار السلبية لقوة الدولار الأمريكي والأوضاع المالية المشددة. وسيكون أحد أهم العوامل تأثيراً في هذا السياق هو سلوك المستهلك الأمريكي الذي يتمتع بسوق عمل مزدهر، وارتفاع في الأجور الحقيقية، وانخفاض في أسعار البنزين. إن المستهلك الأمريكي لم يكن في وضع أفضل مما هو عليه اليوم خلال السنوات الأخيرة، وقد بلغت ثقته الآن أعلى مستوياتها، ولكن العالم ينتظر منه إنفاق المزيد.