كان هذا العام مميزاً بالنسبة لسنغافورة. فقد احتفلت البلاد خلاله بمرور 50 عاماً على استقلالها الذي نالته في عام 1965. كما شهد العام الجاري وفاة الأب المؤسس ورئيس الوزراء "لي كوان يو" الذي قضى فترة طويلة في الحكم (1959-1990). وقد كانت مسيرة سنغافورة خلال السنوات الخمسين الماضية حافلة بالإنجازات حيث تحولت خلالها إلى واحدة من أغنى البلدان في العالم. غير أنها تواجه اليوم تحديات تختلف عن تلك التي واجهتها بعد الاستقلال. وتشمل هذه التحديات تزايد نسبة المسنين بين السكان، وبطء نمو الإنتاجية، والتعرض لآثار ضعف الاقتصاد العالمي من خلال التجارة والتمويل. وتكشف طبيعة هذه التحديات عن انتقال سنغافورة من العالم الثالث إلى الأول.
قطعت سنغافورة شوطاً طويلاً منذ استقلالها في عام 1965، عندما انفصلت عن اتحاد فيدرالي قصير الأجل مع ماليزيا. في تلك الفترة عملت هذه الدولة المدينة (City State) كقناة للتجارة العالمية مع جارتيها الكبيرتين (ماليزيا واندونيسيا). ولم يكن لديها موارد طبيعية، كما أن ما لا يقل عن ثلاثة أرباع سكانها لم يكونوا حاصلين على تعليم أساسي. وكان معدل البطالة يبلغ 14%، في حين تكفلت القواعد العسكرية البريطانية بتوظيف 16% من السكان والإسهام بما يقرب من خمس الناتج المحلي الإجمالي. لكن يعدّ الاقتصاد السنغافوري اليوم أحد أكثر الاقتصادات ديناميكية في العالم. وتعمل البلاد كمركز عالمي للصناعة والتجارة والتمويل، وتتمتع القوة العاملة فيها بنسبة تعليم عالية، ولا يتجاوز معدل البطالة نسبة 2%، إضافة إلى أن شعبها هو الثالث في ترتيب أغنى شعوب العالم (بعد قطر ولوكسمبورغ) حيث بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 84.5 ألف دولار أمريكي.
فكيف استطاعت سنغافورة تحقيق هذا التحول؟ عادة ما تنمو الاقتصادات إما من خلال توسيع عوامل الإنتاج (سوق العمل ورؤوس الأموال والأراضي) أو عن طريق تحسين الإنتاجية. وقد قامت سنغافورة بالأمرين معاً. فمنذ عام 1965، زادت مساحة هذا البلد بنسبة 20% من خلال سياسة استخلاص الأراضي من البحر. وارتفع عدد السكان من 2.0 مليون إلى 5.5 مليون نسمة من خلال الهجرة بشكل أساسي. كما ارتفعت الموجودات الرأسمالية بشكل سريع في ظل الإنفاق الاستثماري الكبير الذي تم تمويله من خلال خطة التوفير الإجباري المحلية والتدفق الهائل للاستثمارات الأجنبية المباشرة. وتم تحفيز الإنتاجية من خلال تدريب وتعليم السكان بجلب المعارف والخبرات الأجنبية. كما تمكنت سنغافورة من جذب الشركات الأجنبية بفضل متانة بنيتها القانونية والتنظيمية، ونزاهة وكفاءة الحكومة، والتحفيزات المالية، وظروف العيش الممتازة، والبيئة الملائمة للأعمال.
نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الإسمي
(ألف دولار أمريكي مكافئ الطاقة الشرائية)
المصادر: صندوق النقد الدولي وجداول بن العالمية
وقسم الاقتصاد في QNB
ورغم مسيرتها الاستثنائية، تواجه سنغافورة اليوم عدداً من التحديات الهيكلية التي تواجهها أيضاً بلدان أخرى كاليابان ومنطقة اليورو. وتراجع نمو سوق العمل بسنغافورة في ظل تفاقم الشيخوخة في صفوف السكان. وتضاعفت نسبة السكان البالغين 65 سنة فما فوق منذ عام 1990. ويمكن حل هذا المشكل بالاستمرار في قبول مهاجرين في سن العمل، لكن هناك تحركات لتقليص الاعتماد على العمال الأجانب وزيادة نسب التوطين. وتهدف مبادرات إعادة الهيكلة التي بدأت في عام 2010 إلى تعويض نقص النمو في سوق العمل برفع إنتاجية العمال من خلال التدريب والتعليم، لكن هذا النوع من المبادرات يستغرق وقتاً كي يعطي ثماره. نتيجة لذلك، فإن إمكانات النمو في الاقتصاد (معدل نمو القوى العاملة ونمو الإنتاجية) التي تمثل القدرة الإنتاجية في الاقتصاد قد انخفضت من 6.0-7.0% إلى ما يقدر بنسبة 3.2%.
بالإضافة إلى التحدي الديموغرافي، تواجه سنغافورة أيضاً مؤثرات سلبية دورية خارجية وداخلية. خارجياً، أثر بطء النمو العالمي على سنغافورة. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يشهد الاقتصاد العالمي في عام 2015 أضعف نمو له في ست سنوات. وبالنظر إلى حجم اقتصاد سنغافورة وانفتاحه الشديد (حجم التجارة يعادل أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي، ما يعدّ أعلى نسبة في العالم)، فقد أثر هذ الأمر سلباً على سنغافورة. أما في الجانب الداخلي، فقد أضر تباطؤ نمو القروض وتراجع أسعار المنازل بالاستهلاك المحلي والاستثمار. ونتيجة لذلك، فإننا نتوقع أن ينخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي من 2.9% في عام 2014 إلى 2.2% في 2015.
وعلى الرغم من المؤثرات السلبية، هناك الكثير من الأمور الإيجابية، حيث تتسم حكومة سنغافورة وصناع سياساتها بالكفاءة. وظلت السياسة المالية داعمة للاقتصاد وتم تخفيف السياسة النقدية مرتين هذا العام لمواجهة المعوقات. وتتعامل السلطات بشكل جيد مع ازدهار قطاع السكن ووضعت خطة تسمح بهبوط ناعم ومنظم لأسعار المنازل تفادياً للانهيار المفاجئ الذي من شأنه أن يلحق الضرر بالأسر والمؤسسات المالية. ونظراً لسجل سنغافورة الحافل في معالجة المشاكل التي عانت منها كإحدى دول العالم الثالث على مدى الخمسين عاماً الماضية، يمكن للمرء أن يكون متفائلاً حيال قدرتها على حل المشكلات التي تواجهها اليوم بعد انتسابها للعالم الأول.