رداً على الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 والآثار التي تربت عليها، قامت البنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم بتنفيذ سياسة نقدية ميسرة أكثر من أي وقت مضى.
في البداية، عمدت بعض البنوك المركزية إلى تخفيض سياساتها الخاصة بأسعار الفائدة إلى مستويات قريبة من الصفر، ودفع أسعار الفائدة للمدى القصير لأسفل. ولاعتقادها بأنه لا يمكن الذهاب بهذه الأسعار بعيداً في المنطقة السلبية، بدأت البنوك المركزية في التحول إلى وسائل بديلة غير تقليدية في تيسير السياسة النقدية.
وكان البرنامج الأهم في هذا الخصوص هو برنامج التيسير الكميّ - شراء السندات الحكومية، الأمر الذي ساعد على تخفيض عائدات السندات للمدى الطويل. وحيث وصلت أسعار الفائدة للمدى الطويل الآن إلى مستويات انخفاض تاريخية، فإن تأثير التيسير الكميّ ربما يكون قد قل.
ومنذ عام 2014، قاد هذا الواقع عدداً من البنوك المركزية لبدء النظر في اعتماد أسعار فائدة سلبية. ولقد ظهر أن بإمكان البنوك المركزية أن تخفض أسعار فائدتها إلى مدى أبعد مما كان يعتقد في الماضي تحت الصفر.
إن أسعار الفائدة السلبية تعني أن على البنوك أن تدفع رسوماً للحفاظ على احتياطياتها الفائضة لدى البنوك المركزية، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى فرض أسعار فائدة سلبية على ودائع عملائها. ومن المفترض أن يقود هذا إلى تشجيع الاقراض للاقتصاد والحدّ من المدخرات.
وكان من المتوقع في البداية أن لا تستطيع البنوك المركزية خفض أسعار فائدتها لأقل من الصفر لسببين رئيسيين:
الأول، هو إمكانية أن تقود أسعار الفائدة السلبية لتشجع البنوك والأفراد والشركات على الاحتفاظ بالسيولة التي لديها. فإذا كانت هناك رسوم مفروضة على إيداع الأموال لدى النظام المصرفي أو البنك المركزي، فسيكون تخزين النقود، التي يكون سعر الفائدة عليها دائماً صفراً، تصرفاً مناسباً لأنه يترتب دفع ولا الحصول على فائدة من تخزين النقود.
ثانياً، إن أسعار الفائدة السلبية قد تلحق الضرر بربحية البنوك. فإذا لم تعمل البنوك على تمرير أسعار الفائدة السلبية للعملاء، فإنها لن تحصل على ما يعوضها عن الخسائر التي تتكبدها من الفائدة السلبية على احتياطياتها التي لدى البنوك المركزية.
ولكن بالرغم من هذه التحذيرات، فإن عدداً من البنوك المركزية قد خفضت أسعار فائدتها إلى المنطقة السلبية بدون أن يترتب على ذلك انهيار لنظامهم المصرفي أو هروب للودائع المصرفية من البنوك والتحول إلى أموال نقدية مدخرة عند اصحابها. فكيف تمكنت هذه البنوك المركزية من تحقيق ذلك؟
أولا، اتضح أن تكلفة أسعار الفائدة السلبية للبنك المركزي يمكن أن تكون في الواقع منخفضة نسبياً. فعلى سبيل المثال، في سويسرا، حيث تبلغ الأسعار حالياً -0.75%، تقدر مؤسسة جي بي مورغان (N:JPM) أن تكلفة أسعار الفائدة السلبية للبنوك تبلغ 0.03% من إجمالي أصولها. ولم يحدث في سويسرا اندفاع لتحويل الودائع إلى نقود في، مما يشير إلى أن هذا المستوى من تكاليف الفائدة على الودائع مقبول بالنسبة للبنوك.
ثانياً، وبغرض عدم تشجيع التحوّل إلى النقد، قام البنكان المركزيان في سويسرا واليابان بإدخال نظام يفرض عقوبات على البنوك التي تحتفظ بحصص كبيرة من النقد في شكل احتياطيات.
أخيراً، اتبعت البنوك المركزية نهجاً مبتكراً في تطبيقها لأسعار الفائدة السلبية. مثلاً، عندما فأجأ البنك المركزي الياباني الأسواق بتخفيضه لأسعار الفائدة إلى -0.1% في شهر يناير المنصرم، قام أيضاً بإدخال نظام متعدد المستويات للاحتياطيات، حتى يكون سعر الفائدة السلبي مطبقاً فقط على جزء من احتياطيات البنوك. وقد تم تبني نظام متعدد المستويات للاحتياطيات أيضاً في سويسرا والدنمارك، فهو يساعد البنوك على خفض تكاليف أسعار الفائدة السلبية.
وتشير تجربة أسعار الفائدة السلبية إلى أن الحد الأدنى للفائدة ليس هو الصفر، بل هو على الأرجح أقل من ذلك. في الواقع، قد يكون بإمكان بعض البنوك المركزية أن تخفض أسعار الفائدة أكثر من ذلك بكثير.
لكن هناك مخاوف من أن تخفيض أسعار الفائدة أكثر إلى المنطقة السلبية قد لا يكون بنفس القدر من الفعالية كتخفيضها عندما تكون فوق الصفر، وذلك لأن البنوك لا ترغب في نقل تأثير أسعار الفائدة السلبية إلى العملاء الأفراد والشركات في الاقتصاد الحقيقي. وذلك يعني أن تخفيض البنوك المركزية لأسعار الفائدة سينعكس جزئياً فقط على بقية الاقتصاد، مما سيجعل تأثيره على النمو والتضخم محدوداً.
وبإيجاز، لقد بات من الواضح أن البنوك المركزية لديها القدرة على خفض أسعار الفائدة أقل بكثير من الصفر مقارنة بما كان يُعتقد في السابق. ويبقى السؤال مطروحاً عما إذا كانت البنوك المركزية ترغب في القيام بذلك بالنظر إلى التأثير الطفيف الذي سينتقل من البنوك إلى العملاء، والتأثير السلبي على أرباح البنوك. لكن قد ترى البنوك المركزية أنه من الأفضل دفع هذه التكاليف من أجل دعم النمو ورفع التضخم.
ومن المتوقع أن يقوم البنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي الياباني بتخفيض أسعار الفائدة أكثر داخل المنطقة السلبية، الأمر الذي قد يشجع البنوك المركزية الأخرى على أن تحذوا حذوهما للحفاظ على القدرة التنافسية لعملاتها.