من فيليب بلينكنسوب
بروكسل (رويترز) - أطلقت هجمات تنظيم الدولة الاسلامية على باريس شرارة تحولات في استراتيجية فرنسا في الشرق الأوسط لكن التحول الذي قد لا يقل أهمية عن ذلك للاوروبيين يجري على قدم وساق في مبنى إداري بالقرب من محطة جار دو نورد في بروكسل.
فقد كانت العاصمة البلجيكية موطنا لبعض المشاركين في اعتداءات باريس وقاعدة للتخطيط اللوجيستي للعملية. وقد أغلقت المدينة التي يسميها البعض "سنترال الجهاد" لعدة أيام خشية وقوع هجمات من متشددين محليين فيها.
والآن وبعد اتهامات دولية لاذعة بأن ضعف التمويل بالاضافة إلى الخلافات السياسية جعل من أجهزتها الأمنية "الحلقة الأضعف" في دفاعات أوروبا في مواجهة الارهاب بدأت بلجيكا تغدق الأموال والموارد على جهاز المخابرات الذي يواجه أكبر تجمع في الغرب للمتشددين ممن تربطهم صلات بسوريا.
وأوضحت تقديرات لميزانية حكومية اطلعت عليها رويترز أن عدد العاملين بجهاز أمن الدولة قد يزيد بمقدار الربع. ولا يُعرف عن هذا الجهاز شيء يذكر سوى عنوانه في مبنى للمكاتب الحكومية الاتحادية لا تميزه ملامح خاصة بالقرب من محطة القطارات الرئيسية في شمال بروكسل.
وللمرة الأولى فيما تعيه الذاكرة أصبح لدى بلجيكا خطط لارسال جواسيس للخارج وهو ما أكدته وزارة العدل ردا على سؤال من رويترز.
وقد شكا قادة الأمن في بلجيكا مرارا أنه ليس بوسعهم التعامل مع عدد يصل إلى 900 متشدد اسلامي من المواطنين الذين نشأوا في البلاد وهو من أعلى المعدلات في أوروبا مقارنة بعدد السكان. كما طالبوا بزيادة المخصصات المالية لعدم كفاية المخصصات الحالية.
ومع ذلك تطلب الأمر إحباط هجوم انطوى على تبادل لاطلاق النار في بلدة فرفيير الشرقية في يناير كانون الثاني لمنع خفض مزمع في الميزانية وصرف 200 مليون يورو (212 مليون دولار) من الإنفاق الأمني. وأدت هجمات باريس إلى تخصيص 400 مليون يورو أخرى في الشهر الماضي.
وعدد من يعملون في جهاز المخابرات البلجيكي في حد ذاته سر من أسرار الدولة على النقيض من كثير من أجهزة المخابرات الغربية لكن الدلائل تشير إلى أن الموارد المخصصة للجهاز أقل من المخصص لأجهزة المخابرات الاوروبية.
ويقول لارس بوفي مؤلف كتاب عن الخدمة السرية البلجيكية إن عدد العاملين حوالي 600 فرد منهم نحو 500 في المخابرات. وكان من المقرر خفض الموازنة هذا العام لكنها زادت بعد حادث فرفيير بنسبة 20 في المئة إلى حوالي 50 مليون يورو.
وتنفق هولندا المجاورة أكثر بكثير حتى مع أخذ مساحتها الأكبر في الاعتبار. ويعمل بجهاز المخابرات الهولندي حوالي 1500 شخص وخصص له هذا العام 213 مليون يورو منها زيادة مقدارها 25 مليون يورو لاستهداف حوالي 220 جهاديا هولنديا يعتقد أنهم توجهوا إلى سوريا أو العراق للمشاركة في القتال.
وقال بوفي "هذا النوع من المقارنات نفسه يمكن أن يتم مع دول مختلفة مثل فرنسا وألمانيا."
وقد وصف بعض المراقبين الأجانب بلجيكا بأنها دولة فاشلة مقسمة بين المتحدثين بالهولندية والفرنسية وتركز على قضايا محلية.
ورفض رئيس الوزراء شارل ميشيل نفسه الذي تولى السلطة مؤخرا الانتقادات خاصة ما جاء منها في وسائل الاعلام الفرنسية لكنه قال إن الاجراءات التي اتخذت في بداية السنة ليست كافية.
وأضاف "نحتاج لبذل المزيد. ونحتاج للتصرف على نحو أفضل."
ويوجد في بلجيكا التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة ستة برلمانات لمناطقها المختلفة وطوائفها التي يتحدث كل منها بلغة مختلفة و193 وحدة شرطة محلية و19 رئيس بلدية يتمتع كل منهم بقدر من الاستقلال في بروكسل وحدها.
وليس على الباحث عن دليل على مدى تأثير هذه التركيبة على السياسات -المفترض في أغلب أنحاء العالم أنها من اختصاص الحكومة الوطنية- سوى ملاحظة عدم ارتياح رئيس الوزراء في مؤتمر قمة المناخ الذي عقد في باريس الاسبوع الماضي.
فلم يكن لبلجيكا خطة متفق عليها بشأن ظاهرة الاحتباس الحراري وهو أمر نادر بين الدول الغنية وذلك لأن الفلمنك الناطقين بالهولندية والوالون الناطقين بالفرنسية لم يتفقوا على شيء.
وخلال ساعات من وقوع اعتداءات باريس توصلت التحقيقات في جانب منها إلى شبكة من الشبان من جالية المهاجرين المغاربة في حي مولينبيك بالعاصمة بروكسل وبدأ الساسة البلجيكيون من الفلمنك والمتحدثين بالفرنسية في توجيه أصابع الاتهام كل للآخر بأنه كان السبب في الفشل من الحد من خطر المتطرفين.
وانتقد وزير الداخلية وهو من الفلمنك وجود ست وحدات من الشرطة تتمتع كل منها بقدر من الاستقلال عن الأخرى في بروكسل التي يبلغ عدد سكانها 1.2 مليون نسمة.
وشكت رئيسة بلدية مولنبيك وهي من المتحدثين بالفرنسية من نقص الموارد الكافية لتتبع 85 شخصا يشتبه أنهم من المتشددين في منطقتها وحدها وانتقدت سلفها الاشتراكي الذي أمضى فترة طويلة في المنصب لتساهله مع الأئمة المتشددين.
وكان أحد المهاجمين الذين فجروا أنفسهم في هجمات باريس وهو بلال حدفي (20 عاما) قد عاد من القتال في سوريا وقررت أجهزة المخابرات تركيب أجهزة تنصت في بيته.
لكنه لم يحضر إلى الشقة التي كانت عنوان بيته المسجل ولذلك لم يتسن اقتفاء أثره.
كذلك واجهت اقتراحات إرغام العائدين من سوريا على ارتداء أجهزة الكترونية مشاكل. فقد دفع إضراب المسؤولين عن تركيب أساور القدم في اقليم الفلاندرز الحكومة المحلية إلى تقليص البرنامج مما أثار استياء الحكومة الاتحادية.
وقال الن وينانت رئيس جهاز المخابرات من 2006 إلى 2014 إن الساسة لم يأبهوا فيما يبدو للجهاز حتى بداية العام الجاري. وضرب مثلا بمحاضرة أعدها الجهاز عن المقاتلين في سوريا للحكومة السابقة فلم يحضرها وزير واحد.
كما اضطر الجهاز للاعتماد على المصادر المعلنة والمخبرين المعروفين وعلى علاقاته الوثيقة بالعملاء المغاربة داخل البلاد حتى عام 2010 عندما سُمح له أخيرا بالتنصت على الهواتف واختراق أجهزة الكمبيوتر والكشف عن الحسابات المصرفية.
وقال وينانت "لا بد أننا كنا من آخر الأجهزة في أوروبا إن لم يكن في العالم التي حصلت على وسائل حديثة لجمع المعلومات مثل التنصت على الهواتف."
وحتى الآن وكما أشار رئيس الوزراء ميشيل عندما أعلن التغييرات بعد هجمات باريس لا يُسمح للشرطة البلجيكية بإجراء عمليات تفتيش للبيوت بعد الساعة التاسعة مساء. وسيتم اسقاط هذا التشريع كما سيحق للمدعين احتجاز المشتبه بهم ثلاثة أيام بدلا من 24 ساعة فقط.
وقال رئيس المخابرات السابق إنه حذر الحكومة من عدم كفاية الموارد وقال إن المخصصات وصلت إلى أدنى حد ممكن وإن من الضروري تعيين ما بين 100 و150 موظفا آخر.
وقد سمح التمويل الاضافي الذي تمت الموافقة عليه في 2015 للجهاز بتعيين 45 شخصا آخرين كما يجري اختيار 28 آخرين.
وتعهد ميشيل في الاسبوع الذي أعقب هجمات باريس بتشديد الخناق على عنف الاسلاميين وحظر الدعاة ممن يستخدمون خطابا فيه دعوة للكراهية وسجن المقاتلين العائدين من سوريا وفرض ارتداء أجهزة الكترونية على الجهاديين.
وقال إن بلجيكا ستضخ 400 مليون يورو اضافية في أجهزة الشرطة والعدالة مع التركيز بصفة خاصة على المخابرات وتعيينات اضافية والإنفاق على الوسائل التكنولوجية المستخدمة في تمييز الأصوات والكاميرات التي يمكنها التعرف على اللوحات المعدنية للسيارات.