التعريفات الجمركية وصراع الهيمنة الاقتصادية.
• في هذا العالم الذي تهيمن عليه الفوضى المنظمة، بدأت الحرب الاقتصادية في شكل قرارات تنفيذية اتخذها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من البيت الأبيض، لكنها احدثت زلزالًا عنيفًا يتجاوز الحدود ويؤثر على العالم بشكل كبير.
- هذة القرارات تعيد تشكيل تدفقات التجارة، وموازين القوى، وأسس العولمة ذاتها. إن إعلان الرئيس الأميركي بتخفيض التعريفات الجمركية إلى 10% على 60 دولة، بينما رفع الرسوم ضد الصين إلى 145%، ليس مجرد قرار سياسي، بل خطوة هندسية ضمن مشروع أوسع لتوجيه الاقتصاد العالمي نحو نظام جديد قائم على النفوذ والسيطرة وإعادة توزيع مراكز الجاذبية الجيو-اقتصادية.
المرحلة الأولى: تفكيك التوازن العالمي القديم.
• لأكثر من حوالي عقدين من الزمن، تم بناء النظام الإقتصادي العالمي على توازن هش ومؤقت بين القوي الكبرى الاقتصادية:
- الصين .. تنتج وتصدر بكثافة وتحافظ على التضخم العالمي منخفضًا.
- الولايات المتحدة .. تستهلك وتقوم بتمويل عجزها من خلال السندات المدعومة بالطلب الصيني.
- الدولار الأميركي .. يحتكر موقع العملة الاحتياطية العالمية، مما منح واشنطن سلطة مالية غير مسبوقة.
- كان هذا التوازن قائمًا على منطق "التعايش الاقتصادي القلق"، حيث يربح الجميع ظاهريًا، لكن في ظل اعتماد متبادل هش. وبدأ التصدع منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، وتفاقم مع صعود القومية الاقتصادية، وتآكل الثقة في المؤسسات متعددة الأطراف مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي.
- قرارات ترامب (على الرغم مما تبدو عليه من خلال الفوضى الإعلامية) تمثل لحظة قطيعة استراتيجية. إنها ليست مجرد رد فعل سياسي، بل تعتبر إعادة تعريف بالاولويات الأميركية، وسعي أمريكي واضح لاستعادة السيادة الاقتصادية الكاملة، عبر تقويض المحور الصيني وفرض محور تجاري جديد أكثر خضوعًا لمصالح واشنطن.
المرحلة الثانية: الفوضى المنظمة والأسواق كساحة قتال.
• عندما تم الإعلان عن "إيقاف مؤقت" للتعريفات المرتفعة لمدة 90 يومًا، لم يكن مجرد استراحة للأسواق، بل تكتيك إدارة أزمات مدروس لتفادي انهيار مالي منظم كان يلوح في الأفق.
حيث أن...
- مؤشر S&P 500 كان يقترب من دخول في مرحلة السوق الهابط بكل المقاييس الفنية.
- السندات الأميركية شهدت تقلبات تاريخية في منحنى العائد.
- الدولار الأمريكي انخفض بشكل حاد وفقد جزءًا كبيرًا من توازنه أمام سلة العملات الرئيسية في ظل تشكيك الأسواق بمصداقية السياسة النقدية والجمركية.
- الإعلان المفاجئ كان بمثابة وقف إطلاق نار مؤقت، أعطى النظام المالي العالمي فرصة لإعادة التوازن... لكن تذكر اخي المستثمر أن التوازن المؤقت ليس استقرارًا حقيقيًا.
- الأهم الآن أن الأسواق تقوم بتسعير الاحتمالات السياسية، لا الحقائق الاقتصادية فقط. لم تعد البيانات وحدها هي المحرك، بل (من يتحكم في قواعد اللعبة.
المرحلة الثالثة: الحرب ليست اقتصادية فقط… بل جيوسياسية.
• علينا أن نتجاوز السرد السطحي. ما يجري لا يمكن اختزاله في نزاع تجاري ثنائي، بل هو صراع متعدد الأبعاد والأطراف على هوية وشكل النظام العالمي القادم.
- من جهة، تقود أميركا مشروع تفكيك العولمة التقليدية، واستبدالها بعولمة مشروطة أمنياً وسياسياً.
- من جهة أخرى، تُجبر الصين على الانتقال من اقتصاد تصديري مفرط، إلى نموذج داخلي أكثر اكتفاءً واستقلالية.
تتجلى ملامح هذا الصراع في الممرات التجارية البديلة:
- من "مبادرة الحزام والطريق" الصينية إلى مشروع طريق "India-Middle East-Europe Corridor" المدعوم أميركياً، في سباق لتحديد مستقبل التدفقات الجيو-اقتصادية.
- الولايات المتحدة أصبحت تستخدم موقعها كمستهلك أول عالميًا كسلاح جيوسياسي لإعادة ترتيب اصطفاف الحلفاء: "إما معنا أو ضدنا". لم يعد الأمر مجرد تغيير في القواعد... بل إعادة تشكيل قواعد اللعبة نفسها بشكل جديد.
الانعكاسات الاقتصادية: الأسواق في مرحلة ما بعد القواعد.
- الأسواق أصبحت لا تتفاعل فقط مع البيانات خلال هذة الفترة، بل مع القواعد التي تحكم هذه البيانات. وعندما تتغير القواعد، يُصبح التقييم المالي والاستثماري أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى.
- المستثمرون الكبار يعيدون تسعير المخاطر بناءً على نماذج "النظام لا السوق"، حيث الإرادة السياسية تُسبق الديناميكيات الاقتصادية.
- شركات القطاع الخاص العالمي أصبحت تؤجل قرارات التوسع والتوظيف والاندماجات، في ظل ضبابية متزايدة تحجب الرؤية.
- الاقتصادات النامية أصبحت أكثر عرضة للهزات بسبب تشابك سلاسل الإمداد، وتغيّر سياسات الرسوم، وعدم وضوح التنظيمات المستقبلية.
- المثير للاهتمام أن الحديث عن العودة إلى "التحكم الحكومي" و"الرقابة على رؤوس الأموال" بدأ يظهر مجددًا، في تحول تدريجي بعيدًا عن الليبرالية الاقتصادية الكاملة.
- نحن الآن أمام لحظة تحول تاريخي تُجبر المستثمرين على إعادة بناء نماذجهم التحليلية والاستثمارية من الصفر.
الرسوم الجمركية: ضريبة خفية على النظام العالمي.
- من الناحية الفنية، تُعد التعريفات الجمركية أعلى شكل من أشكال الضرائب غير المباشرة، وهي تستهدف في جوهرها المستهلك النهائي.
- رفع ترامب للتعريفات على الصين إلى 145%، يعني نظريًا ضرب فائضها التجاري بأكثر من 300 مليار دولار.
- ردت الصين برفع الرسوم الجمركية على الواردات الأمريكية إلى 125%, مما زاد مخاطر الحرب التجارية التي تهدد بقلب سلاسل الإمداد العالمية رأسا على عقب.
ماذا يعني كل ذلك؟
- الشركات الأميركية ستتحمل التكلفة من خلال سلاسل توريد مدمرة أو مرتفعة الكلفة.
- المستهلك الأميركي سيواجه موجات جديدة من التضخم المستورد.
- الأسواق الناشئة، المرتبطة بالصين كمصدر أو وسيط، قد تشهد انهيارات سريعة في شبكات الإمداد.
- العالم بأسره سيشعر بتأثيرات التضخم المُصدَّر من أميركا نتيجة إعادة تسعير كلفة الاستيراد وتغير مراكز التوزيع العالمية.
- لذا، فإن الخطاب السياسي عن "إعادة التوازن التجاري" ليس شفافًا من وجهه نظري، بل هو محمّل بتكاليف بنيوية ضخمة تهدد استقرار النظام الاقتصادي العالمي.
نحو نظام عالمي جديد: ما بعد العولمة؟
• لم يعد الهدف الأميركي الأن هو النمو الاقتصادي في حد ذاته، بل إعادة توزيع النفوذ العالمي وفق أولويات الأمن القومي الأمريكي.
ما هو الشكل المتوقع لهذا النظام العالمي الجديد؟
● التحركات تشير إلى بداية نظام اقتصادي جديد يتسم بالاتي:
- نهاية العولمة التقليدية، وولادة شكل جديد من "العولمة الإقليمية" أو "ثنائية الأقطاب".
- عودة التصنيع المحلي، وتفضيل الإنتاج الداخلي على التجارة العابرة للحدود.
- إعادة كتابة قواعد التجارة الدولية، لتخدم الأجندات السياسية أكثر من المنطق الاقتصادي.
- بدأنا بالفعل نعيش ما يُطلق عليه بعض المحللين "Slowbalization" – تباطؤ العولمة، لا انهيارها – وهو ما يعكس التغير العميق في منطق العلاقات الاقتصادية الدولية.
نصائح استراتيجية للمستثمرين وصناع القرار.
- الأسواق لم تعد كيانات مالية فقط، بل ساحات صراع جيوسياسي مقنّع.
- النموذج الاستثماري التقليدي لم يعد كافيًا: التنويع الجغرافي والقطاعي لم يعد رفاهية، بل ضرورة وجودية.
- الشركات ذات النماذج المحلية سوف تتفوق على نظيراتها ذات الارتباط الكبير بالتجارة الدولية.
- السيولة والتحوط ضد التقلبات يجب أن يكونا في صدارة أولويات إدارة المحافظ.
- إدارة المخاطر السياسية لم تعد هامشية، بل عنصر أساسي في الاستراتيجية المالية الحديثة.
هذه ليست أزمة اقتصادية… بل تغير دورة النظام بالكامل.
• في عالم جديد يتشكل، يحكمة الصراع ويتغير على مستوى القواعد الأساسية لا التفاصيل الفرعية البسيطة، يصبح التفكير الاستراتيجي هو الأداة الوحيدة للنجاة.
• هذه ليست دورة اقتصادية تقليدية... إنها دورة لإعادة تشكل النظام بالكامل. ومن لا يعيد بناء أدواته التحليلية والاستثمارية على هذا الأساس، لن يكون مجرد خاسر. بل خارج اللعبة بشكل كامل.
● لمزيد من المعلومات عن الأسواق المالية.. تابع حسابي على فيسبوك (NASDAQ:META) @Osama.Forex.Trader