بعد خمس سنوات من المفاوضات، تم التوصل إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ ‒ أكبر اتفاق تجاري منذ عقدين من الزمان ‒ وكان ذلك في الخامس من شهر أكتوبر المنصرم. وهذه الشراكة هي عبارة عن اتفاقية تجارية اقليمية بين 12 دولة تساهم بنسبة 26% من التجارة العالمية وبنسبة 37% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وتهدف الاتفاقية إلى كسر الحواجز المرتبطة بالرسوم الجمركية وغير المرتبطة بها لتسهيل تجارة السلع والخدمات بين الدول الأعضاء. وتتضمن الاتفاقية قوانين جديدة تغطي وسائل التكنولوجيا الحديثة والاقتصاد الرقمي والخدمات وحقوق الملكية الفكرية (كبراءات الاختراع الخاصة بالعقاقير مثلاً)، كما تضع معايير لقوانين حماية البيئة وحقوق العمال. وبإمكان الشراكة عبر المحيط الهادئ دعم نمو التجارة العالمية من خلال الحد من سياسات الحماية الاقتصادية وإنعاش سلاسل الإمداد العالمية وتمهيد الطريق لاتفاقيات إقليمية جديدة.
وقد ظل نمو التجارة العالمية بطيئاً في الفترة من 2012 إلى 2015، حيث بلغ في المتوسط 3.2% في العام مقارنة مع نسبة 6.2% في السنوات العشرين التي سبقت ذلك. وهذا أمر مقلق لأن التجارة تعود بفوائد كبيرة على الاقتصاد العالمي، فهي تدعم توزيع الموارد بشكل أفضل بين الدول التي لها مزايا نسبية متنوعة، وتشجع نشر التكنولوجيا والمعرفة. ويأتي تراجع التجارة العالمية نتيجة لمزيج من العوامل التي تتضمن ضعف الطلب، والتغير في سلاسل الإمداد العالمية مع تزايد توطين التصنيع في الولايات المتحدة والصين، إلى جانب زيادة سياسات الحماية الاقتصادية (انظر تقريرنا السابق لماذا تعاني التجارة العالمية من الركود؟).
زادت السياسات الحمائية منذ الأزمة المالية العالمية. وقد حذرت منظمة التجارة العالمية من " الحمائية المتسللة" الناتجة عن فرض الحكومات لقيود تجارية جديدة. بالإضافة لذلك، حققت منظمة التجارة العالمية مؤخرا نجاحاً محدوداً في تقديم اتفاقية جديدة للتجارة العالمية تهدف لإزالة الرسوم الجمركية وغيرها من الحواجز أمام التجارة. وظلت الجولة الحالية من محادثات منظمة التجارة العالمية، جولة الدوحة، مستمرة منذ عام 2001، ولكنها لم تحرز تقدماً يذكر بسبب فشل الدول المتقدمة والنامية في حل النزاعات. وحيث لم يحدث تقدم يذكر بشأن إبرام اتفاقية شاملة للتجارة العالمية داخل منظمة التجارة العالمية، تجري الآن سلسلة من مفاوضات الاتفاقيات التجارية الإقليمية والثنائية ، مثل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ ، خارج نطاق منظمة التجارة العالمية والتي يؤمل منها أن تساعد على عكس ميل الدول نحو نهج سياسات حمائية عن طريق خفض الحواجز أمام التجارة.
ومن المفترض أن تعمل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ أيضاً على تشجيع مزيد من الإنتاج في الخارج، وتنشيط شبكة التوريد العالمية، وإفادة المستهلك العالمي من خلال خفض الأسعار ومساعدة المنتجين من الدول الأعضاء في أن يصبحوا أكثر قدرة على المنافسة. وعلى سبيل المثال، فإن الملابس المصنعة في فيتنام التي يتم تصديرها إلى أستراليا، تحصل على مدخلاتها من ماليزيا (أزرار) وسنغافورة (النسيج)– وكلتاهما أعضاء في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ. وهناك رسوم مطبقة حالياً على جميع المدخلات (~ 5٪ من التكلفة)، وكذلك على المنتج المصدر النهائي (~ 5٪). وعليه فإن إزالة الرسوم الجمركية من خلال اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ من شأنها أن تقلل من تكلفة المنتج في أستراليا، وهي دولة عضو في الاتفاقية، بنحو 10% وفي البلدان غير الأعضاء في الاتفاقية بنسبة 5%. وبذلك سيكون بإمكان فيتنام أن تبيع المزيد من الملابس، وماليزيا المزيد من الأزرار، وسنغافورة المزيد من النسيج، ويحصل المستهلكون الأستراليون على منتج أرخص.
ونتيجة لذلك، ستزيد صادرات البلدان المنضوية في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، كما سيرتفع الناتج المحلي الإجمالي بفضل زيادة الصادرات. وستكون المكاسب الأكبر في الأسواق الناشئة مثل فيتنام حيث أن إلغاء رسوم التصدير المرتفعة نسبياً سيجعل صادراتهم المصنعة أكثر تنافسية بشكل كبير في أسواق كبيرة مثل الولايات المتحدة واليابان. لكن المزايا لن تكون كبيرة بالنسبة لاقتصاد متقدم مثل الولايات المتحدة حيث الرسوم الجمركية منخفضة مسبقاً وحيث أن اقتصادات الدول الأخرى في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ صغيرة بالمقارنة مع الاقتصاد الأمريكي.
إجمالي المكاسب المقدرة من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ بحلول عام 2025
(% تغيير من خط الأساس)
المصادر: Petri (2015), “Understanding the Estimated Gains from Trade Pacts”
بالإضافة لتعزيز التجارة والدخل، ستوفر اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ أيضاً نموذجاً لاتفاقيات إقليمية أخرى مماثلة كاتفاقية شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي (42% من التجارة العالمية و59% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي). ومن المحتمل أن تنضم دول أخرى إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ مع مرور الوقت مما سيوسع من مزايا هذه الاتفاقية.
لكن، ستستغرق هذه المزايا وقتاً طويلا لكي تتحقق على أرض الواقع حيث لا زالت البرلمانات في هذه الدول لم تصادق على الاتفاقية بعد، وهو ما يستبعد حصوله قبل عام 2017 على أقرب تقدير في ظل مخاطر كبيرة بفشل هذه الاتفاقية أو تأخرها. بالإضافة إلى ذلك، سيتم تطبيق التغييرات التي تتطلبها اتفاقية الشراكة بشكل تدريجي على مدار السنوات العشر القادمة، خصوصاً في المجالات التي تواجه ارتفاع الرسوم الجمركية. وبالتالي، رغم امكانية اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ بإعادة تنشيط التجارة العالمية بشكل كبير، فإن ذلك لن يتحقق بشكل كامل إلا بعد مرور بعض الوقت.