في منتصف عام 2008 بدت بوادر أزمة مالية عالمية ضخمة، رمت بظلالها على اقتصادات العالم، طحنت اسواق الاسهم والعملات والسلع، شردت أكثر من 30 مليون أمريكي بلا منازل تأويهم، أكثر من 2500 بنك أفلسوا بالولايات المتحدة وحدها، كانت آثار صدع هذا الزلزال العظيم قد خرجت عن السيطرة لتطال الاقتصادات الكبرى بالكامل سواء يمينا عبر المحيط الأطلسي حيث اوروبا، او يساراً حيث المحيط الهادي حيث آسيا.
وقف الجميع في ذهول وصدمة من الازمة التي أطلق عليها (ازمة الرهن العقاري) وجلس أكبر اقتصاديي العالم ليفكروا في حل يخرجون العالم به من هذه الورطة، حتى ظهر أحدهم بفكرة الهمت الجميع وقتها، الا وهي (التيسير الكمي)
وهي باختصار شديد طبع الأموال، هناك حفرة اقتصادية مهولة، إذن فلنطبع الأموال ونسد بها تلك الحفرة.
على صعيد آخر كان هناك أفراد عاديين مثلي ومثلك تأثروا من نفس ذات الازمة، وكان لهم رأي آخر، سبب المشكلة الاساسية في أزمة الرهن العقاري هي المال، وطباعة المزيد منه قد يكون حل مؤقت ولكنه ليس مستدام، فعكفوا على اختراع جديد بالأسواق كان ميلاده من رحم تلك الازمة وهو البتكوين وملحمة البلوكتشين.
منذ ذلك الحين سار كلا من الفريقين على دربه، الأمريكيين واليابانيين تصدروا العالم في عمليات التيسير، والافراد الاخرين مستمرين في تعدين البتكوين.
كلما واجهت الولايات المتحدة الامريكية ازمة، يلجؤون الى حزم التحفيز والتي هي (تيسير كمي) او بمعنى ادق طباعة الاموال.
كان الأمر في بدايته معقول الى حد ما، طباعة كم محدود من الأموال وشراء الديون.
لكن هناك مشكلة في طباعة الأموال ، وهي أن طباعة الأموال تلد التضخم ، والتضخم عدو النمو والاقتصاد الاول ، وحش اذا خرج عن السيطرة هدم كل شيء ، فكانت الفكرة التي خرجت بالأسواق الامريكية واليابانية عدا سواها من اسواق الاسهم إلى قمم غير مسبوقة ، حيث تم توجيه التضخم عن عمد الى تلك الأسهم، لتكون الأسهم ولأول مرة اختيار مفضل للتحوط ضد التضخم ، وبالتالي حلت محل الذهب الذي ظل قابع اسير اسفل مستويات 1400 سنوات عدة في حين تتسابق المؤشرات الامريكية في تسجيل أرقام قياسية جديدة كل يوم ، بل وفي اليوم الواحد اكثر من رقم قياسي ، حيث صعد مثلا مؤشر داو جونز من مستويات 6700 قاع ازمة 2008 ، الى مستويات 33200 ، تضاعف خمسة مرات ، وكان هو الأضعف بين المؤشرات القيادية الأمريكية فالناسداك والإس إن بي سجلوا ارتفاعات أعلى ، كان كل ذلك ليس نتيجة نتائج أعمال الشركات والأرباح ، بل السبب الأول هو توجيه الفدرالي للتضخم نحو أسواق المال.
ظلت هذه الاستراتيجية معمول بها حتى تفاجئ العالم بجائحة كورونا، وتعطل حركة النقل والسفر بين الدول، والاغلاقات الكبرى للمصانع والشركات والهيئات بل والحكومات في بعض الدول، رمت بظلالها على اساس الرأسمالية وكادت تضربها في مقتل، حتى هرول سريعا الفدرالي بمساعدة الكونجرس الى حزم التحفيز والتي تجاوزت في مجملها 7 تريليونات دولار منذ بدء الجائحة.
رقم ضخم ، مذهل ، ومهول ، ولكن اضطر له صناع السياسة والاقتصاد الأمريكيين لأن المشتري لم يكن يملك نقوداً للشراء، مما سيترتب عليه نظرية الدومينو وهي باختصار (مصانع تصنع ، متاجر تشتري منتجات المصانع ، مشتري يشتري من المتاجر ) أهم عنصر هنا هو المشتري العادي ، انا وانت ، هذا المشتري فقد امواله بسبب فقد وظيفته بسبب جائحة كورونا ، اذن يجب ان يمتلك المشتري اموالا للشراء لأنه لو لم يشتري ستغلق المتاجر وبالتالي المصانع وينهار الاقتصاد وتصبح ازمة الرهن العقاري عام 2008 مجرد مزحة بجانب ما كان سيحدث للاقتصاد الأمريكي لو لم يعتمد حزم التحفيز تلك وبسرعة.
لكن على جانب آخر قد يكون للدواء آثار جانبية، ضخ 7 تريليونات دولار في اقتصاد دولة مهما كان ضخم سيؤثر بالتالي على التضخم، بل وسيؤثر بقوة، هنا اتجه صناع القرار صوب اسواق الاسهم لتصريف هذا التضخم فوجدوا ان الاسعار لم تعد مغرية، وارتفاعها أكثر من ذلك سيخلق فقاعة فوق الفقاعة الموجودة أصلا وقد تنهار اسواق الاسهم في أي لحظة،
ماذا نفعل الآن؟! قال أحدهم نعود الى الاختيار الطبيعي، الذهب، تم توجيه التضخم نحو الذهب، صعد من مستويات 1400 حتى تجاوز ال 2000 دولار للأوقية، وكان كل شيء يسير على ما يرام حتى وجدوا أن المال المطلوب دخوله في سوق الذهب لو استمر بالدخول سيتجاوز في فترة وجيزة أرقام قياسية، والذهب به شيء يعتبره الفدرالي عيب وهو ان الذهب مع الناس (الناس في جميع أنحاء العالم تتعامل بأسعار الذهب العالمية) ومن لا يمتلك ذهباً حتى لو جرامات بسيطة؟ ومن سيراه بهذه الاسعار ولا يبيع؟ وجد الفدرالي أنه سيخلق بائع ضخم للذهب يفوق المبلغ الذي اراد ان يوجهه لهذا السوق ووجد نفسه في معضلة من جديد.
ويبقى السؤال.. اين سنقوم بتوجيه التضخم؟
الى ان قفز أحدهم وقال جئتكم بشيء ثمين يبتلع اضعاف هذا الرقم وبسهولة ويصلح أن يكون عامل التحوط الأول لنا ضد التضخم، ما هو؟ نعم عزيزي، العملات الرقمية وعلى رأسها البيتكوين ، والذي اعتقدت انت انه صعد هذه الصعدة بدون إذن وامر من الفدرالي فقد تكون ساذجاً، وجد الفدرالي ضالته في البتكوين رفعوه لأرقام قياسية، وبدأت البنوك الأمريكية الكبرى في كتابة التقارير، حيث يشير أحدهم أن البتكوين سيصل إلى 167 ألف دولار، ويقول الاخر نحن محظوظون لأننا نشتري البتكوين بأقل من 100 ألف دولار، وبالغ ثالث وقال بل سيصل الى مليون دولار. وظلت تهبط توصيات الشراء وتدخل البنوك ويروج كبار رجال الأعمال إلى البتكوين والايثيريوم والريبيل والدوجي وغيرها حتى قفزت لمستويات غير مسبوقة.
نجح الفدرالي اخيرا في كبح جماح التضخم، وخرج جيروم باول يوم الاربعاء الماضي يقول مغتراً، دعنا نرى التضخم يلعب قليلا أعلى مستويات 2%
انتهت الحدوتة وبات الكل سعيدا، آمناً، مطمئناًَ .... لحظة!
قد يكون فات على الفدرالي أمر صغير، وهو أن ما يشترى اليوم، سيباع غدا
قد يكون هؤلاء الخبراء نجحوا في إخفاء التضخم الناتج عن جنون طباعة الأموال داخل اسواق الاسهم والعملات الرقمية.
لكنهم لا يعلمون ماذا لو خرج هذا المختبئ وفاجئهم في أي لحظة؟
كل الأموال التي دخلت أسواق الأسهم ستخرج عن طريق جني الارباح حتماً، وكذلك في العملات الرقمية، سيجد الفدرالي نفسه في وضع قد يخسر فيه اللعبة بالكامل، حينها لن يكون أمامه خيار إلا مواكبة الطبيعة، واللجوء للذهب
والذي نعتقد انه الاستثمار الامثل والاقوى والأربح على مدار الخمسة أعوام المقبل.
كريم راغب
محلل فني