هبطت أسواق الأسهم في عديد من الدول بالعالم خلال الأشهر الخمس الأولى من هذه السنة، وهبطت مؤشرات الأسهم الأمريكية الرئيسية بشكل ملموس، حتى أن مؤشر ستاندرد آند بورز 500 لكبرى الشركات الأمريكية فقد نحو 23.6% من أعلى ذروة قياسيّة حققها شهر يناير الماضي 2022 بإغلاقه تداولات الجمعة الماضي الموافق الـ17 من شهر يونيو 2022. ولا شكّ أن حالة من القلق سادت الأسواق المالية جرّاء توجّه البنوك المركزية لرفع الفائدة للحد من ارتفاع معدّلات التضخّم، كما أن التوتّرات الجيوسياسية شرق أوروبّا وإغلاقات كورونا في الصين، كلها اجتمعت لتزيد النزيف في الأسواق.
وعندما ينظر العديد من المتداولين والمستثمرون لأسواق الأسهم التي تنهار، سنجد بأن فئتين اثنتين تظهران جليّاً، الأولى هم "المتشائمون" الذين يرون دوماً بأن للانخفاض بقيّة، والفئة الثانية هي "المتفائلون" الذين يرون بأن أسعار الأسهم السوقية أصبحت "أرخص" مما كانت عليه سابقاً، ويقومون بدخول الأسواق شراءً، لكن سرعان ما يصبحون من الفئة الأولى مع استمرار انخفاض الأسواق.
لكن، هنالك فئة من المستثمرين لا نسمع عنها كثيراً، ونجدهم يختفون وراء الكواليس، أطلق عليهم ريتشارد وايكوف (Richard Wyckoff) مسمّى "الرجل المركّب" أو "Composite Man". كما ألمح لهم "تشارز داو" صاحب أحد أشهر نظريات التحليل الفني للأسواق المالية، على أنهم مجموعة تقوم باتخاذ زمام الأمور خلال مراحل "التكتّل والتجميع" Accumulation.
لنقم بتسمية الفئة التي ذكرها كل من "ريتشارد وايكوف" وألمح لها "تشارلز داو" على أنها الفئة الثالثة، وهي الفئة التي تستطيع الاستفادة من الأسواق المالية بشكل مغاير لأساليب المضاربين ومستثمري التجزئة. ومن مميزات هذه الفئة، بأنها تقوم باتخاذ استثمارات متوسطة وطويلة الأمد في أسواق هبطت مسبقاً.
الصورة التالية توضّح حركة الأسواق بحسب نظرية تشارلز داو:
نستطيع أن نلاحظ بأن هنالك من يقوم بشراء الأسهم بعد انخفاضها، وعلى الأرجح، ستراقب هذه الفئة من المستثمرين الأسعار، حتى تصل إلى مستويات سعر سوقي ينخفض فيها مكرر الربحية وتصبح فيها النسب المالية الأخرى تظهر بأن أسعار الأسهم ما دون السعر العادل لها، مثلاً أن يصبح السعر السوقي قريب من السعر الدفتري أو حتى ما دونه!
شركات مثل آبل (NASDAQ:AAPL) التي تعتبر الشركة الأكبر في القيمة السوقية بالولايات المتحدّة الأمريكية، انخفض فيها مقياس PE Ratio (السعر السوقي إلى العائد) من مستويات فوق 29 مرّة إلى حوالي 21 مرّة كمقارنة بين الربع الرابع 2021 وسعر إغلاق يوم الجمعة الماضي. كما انخفض المؤشر لشركة مايكروسوفت (NASDAQ:MSFT) ثاني أكبر شركة بالقيمة السوقية في الولايات المتحدّة من 35 إلى 25 مرّة، فيما هبط المؤشر لشركة ألفابيت، الشركة الأم لجوجل، من 25 إلى 19 مرّة. كما أن العديد من الشركات الأمريكية انخفض فيها المؤشر، وهذا المؤشر يطلق عليه "مكرر الربحية"، وكلما انخفض هذا المؤشر يدل على أن السهم أكثر جودة استثمارياً، بتحييد النسب المالية الأخرى.
بالتالي، انخفاض الأسعار السوقية للأسهم بعد ارتفاعها الهائل خلال الفترة منذ شهر مارس عام 2020 إلى الذروة شهر يناير 2022، قد يجعل بعض المستثمرين ينتظرون نقاط تجميع محتملة خلال الفترة المقبلة، ربما خلال أسابيع أو أشهر أو بضعة أشهر.
ميزة أخرى تمتاز بها أسواق الأسهم يُدركها كبار المستثمرون، وهي أن دورة أعمال أسواق الأسهم تسبق دورة أعمال الاقتصاد بفترة زمنية، قد تكون أسابيع أو أشهراً. والصورة أدناه توضّح العلاقة بين أسواق الأسهم والدورة الاقتصادية:
يتوقّع الاقتصاديوّن بأن يدخل الاقتصاد الأمريكي في الركود خلال الفترة الممتدة بين الربع الرابع العام الجاري 2022 والربع الثالث عام 2023، وبحسب فاينانشيال تايمز، احتمالات الركود الاقتصادي في الولايات المتحدّة كبيرة العام المقبل لأسباب عديدة، منها رفع الفيدرالي الفائدة.
وبحسب علاقة دورة أعمال أسواق الأسهم والدورة الاقتصادية، انخفضت أسواق الأسهم مستجيبة لتوقعات ركود الاقتصاد الأمريكي، بل والعديد من الدول في العالم، حيث فاجأ صندوق النقد الدولي الأسواق بخفضه لتوقعات النمو العالمي من 4.1% إلى 2.9%، كما قال المتحدّث باسم صندوق النقد الدولي بأن الصندوق يعتزم خفض توقعاته البالغة حالياً 3.6%. لكن مع اقتربنا من الركود الاقتصادي المحتمل أكثر فأكثر، قد نلاحظ بأن أسواق الأسهم قد بدأت بالانتعاش مجدداً حتى عندما يبدأ الاقتصاد بالتدهور الفعلي! فأسواق الأسهم
تسبق في العادة بوصول قاعها وصول الاقتصاد للقاع، وبعدها تبدأ بالارتفاع قبل أن يتعافى الاقتصاد كلّياً، بل ربما يكون الاقتصاد يمر بالركود وتبدأ الأسهم بالارتفاع.
أفضل ما يثبت علاقة دورة الاقتصاد ودورة أعمال الاقتصاد، هو ما حصل في جائحة كورونا، عندما انكمش الاقتصاد الأمريكي في أسوأ انكماش له منذ الحرب العالمية الثانية خلال الربع الثاني عام 2020، لكن كانت أسواق الأسهم قد وجدت قاعاً بداية نهاية الربع الأوّل.
نظرة كبار المستثمرين لأسواق الأسهم
ربما يرى كبار المستثمرين انخفاض أسواق الأسهم فرصة جديدة تتكوّن لبدء استثمارات بأسعار سوقية أكثر مناسبةً مما كانت عليه خلال الأشهر الماضية، وقد تبدأ دراستهم لنتائج أعمال الشركات منذ نهاية الربع الثاني من هذه السنة، أي خلال الشهر المقبل.
ليس من المؤكّد أن نرى انعكساً صاعداً في وقت قريب، لكن هنالك استراتيجيات تداول عديدة للمستثمرين في أسواق الأسهم، قد تمكنّهم من استغلال الانخفاض الحالي والاقتراب من القيعان المحتملة الأشهر المقبلة. ومن الاستراتيجيات الأكثر شهرة في الأسواق المالية العالمية، استراتيجية التعزيز السلبي (Negative Averaging)، وهي عبارة عن بدء دخول أسواق الأسهم عندما تقترب أسعار الأسهم السوقية من قيمها العادلة، على شكل دفعات تفصل بينها فترات زمنية، وليس دفعة واحدة، لاستغلال الانخفاض في الأسعار السوقية ما أمكن.
وأعتقد شخصياً بأن أسواق الأسهم قد تستمر بالانخفاض على المدى القصير وربما المتوسط، وهنا نقصد مؤشر ستاندرد آند بورز 500 لكبرى الشركات الأمريكية، حيث أن المؤشر كسر مستوى دعم تحوّل لمقاومة حول 3800 نقطة خلال الأسبوع الماضي، وبحسب التحليل الفني، قد يستمر الانخفاض للاقتراب من الحاجز النفسي 3500، بل لا يجب استبعاد وصول مستويات 3200 – 3150، لكن متى سيبدأ السوق بالارتفاع من جديد؟
بحسب نظريات التحليل الفني، كلما اقترب الاقتصاد الأمريكي من الركود، كلما أصبح احتمال تكوّن قاع لأسواق الأسهم أكبر. لنتابع إذن البيانات الاقتصادية القادمة معاً.