الجائحة ونوبة التضخم.. كارثتين كبيرتين حلتا بالسواد والثبور وعظائم الأمور على الاقتصاد العالمي ونموه الهش أصلاً، فمن خلالهما بدأ الجميع يتخوف العودة إلى سيناريو الركود الذي ضرب العالم خلال العقد الأول من القرن الحالي، ومن هنا تبرز أحد الأعمدة المضيئة وسط العتمة، وهي تجارة الخدمات عن بعد، والتي نرى أنها مرشحة بقوة لتصبح أحد رهانات الانعتاق من الركود ومقاومة إزالة العولمة في وجهها الإيجابي، فهى قادرة على إطلاق آفاق اقتصادية مشرقة لما بعد التضخم وما بعد الجائحة بطبيعة الحال، شريطة تفكيك الحواجز الاصطناعية والاستفادة من التقنيات الراهنة.
أثناء الوباء، عانت الطبقتين المتوسطة والدنيا بشدة من تضخم أسعار الغذاء والوقود، وفاة العديد من الأطفال نحو عامين من الدراسة ومن المرجح أن يترك الكثيرون منهم مدارسهم، مما سيضعف بشكل دائم إمكاناتهم في الكسب ويقلل من مهارات القوى العاملة المستقبلية، كما أن إزالة العولمة من خلال إعادة التوطين، وزيادة الدعم الحكومي للشركات المحلية، وقصر الاستيراد على الدول الصديقة، سيهدد الطلب العالمي على المدى الطويل.
وإذا لم يجد العالم مصادر جديدة للنمو، فسيعود مرة أخرى إلى حالة الركود السابقة، ولكن هذه المرة، قد يكون الوضع أسوأ، لأن معظم الدول لديها قدرة مالية محدودة لتحفيز الاقتصاد، كما أن أسعار الفائدة لن تتراجع بسرعة، إلا أنه، ولحسن الحظ، لا تزال هناك رياح خلفية يمكن إطلاقها، فإذا كانت تجارة السلع وصلت إلى حدودها قبل الوباء، فإن تجارة الخدمات لم تصل بعد، وإذا تمكنت الدول من إزالة العديد من الحواجز غير الضرورية، فإن تقنيات الاتصالات الجديدة ستسمح بتقديم العديد من الخدمات عن بعد.
وفي هذه الحالة، فإننا نرى أن عمل الشركات الاستشارية عبر الحدود سيكون مرشحاً للنمو بقوة، وبتكلفة أقل بكثير، وبالمثل، سيصبح التطبيب عن بُعد ممكنًا بشكل متزايد، ليس فقط على مستوى العلاج النفسي والأشعة ولكن أيضًا في التشخيصات الطبية الروتينية، حيث يمكن للمنظمات الطبية تقليل الحواجز المعلوماتية، مما يسمح للممارس العام في أي دولة بإجراء فحوصات طبية روتينية للمرضى في دولة أخرى، وتحويلهم للأطباء المحليين عند الحاجة.
لكن، أكبر الحواجز التي تعترض تجارة الخدمات ليست تكنولوجية بل هي حواجز مصطنعة، فمن المفهوم أن حكومات الاقتصادات المتقدمة لا تسمح للممارسين العامين في دول أخرى بتقديم خدمات طبية دون الحصول على شهادة معتمدة، كما أن إجراءات التصديق في معظم البلدان مرهقة بلا داعٍ، وقد يكون الحل في اتفاق عالمي يسهل عمل الممارسين للطب، حيث يمكن لبلد يعاني من أمراض غير عادية أن يمتحن أولئك الأجانب الذين يرغبون في ممارسة المهنة عن بعد.
ولنا أن نتخيل، الآثار المترتبة على سرعة وصول مريض عربي أو أفريقي أو أوروبي إلى طبيب أمريكي، والعكس، وهكذا، فإن الاستعانة بهذه المصادر الخارجية في تجارة الخدمات، سيفيد كافة الاقتصادات، لأن الدخل الذي يدره الأطباء سيستخدم لتوظيف المزيد من العمال المحليين، وعلاوة على ذلك، سيكون الأطباء أقل عرضة للهجرة، كما يمكنهم استخدام نفس تقنيات التطبيب عن بعد لتقديم خدماتهم في الأجزاء النائية من بلدانهم، وسيكون المتخصصون في الاقتصادات المتقدمة قادرين على تقديم المزيد من خدماتهم في البلدان النامية دون الحاجة للسفر إلى دول أخرى.
قد يقول البعض، إن مقدمو الخدمات في الاقتصادات الغنية سيقاومون إزالة الحواجز التي تضمن لهم أجورًا عالية، ربما يحدث ذلك، إلا أن الطلب المحلي سيظل كبيراً على خدماتهم، وأيضًا، إذا تم تخفيض الحواجز في مكان آخر، فستكون قادرة هي الأخرى على الدخول إلى أسواق أخرى بخدمات متخصصة ذات قيمة مضافة، ولهذا السبب، فإن أي اتفاق مرتقب لتقليل الحواجز أمام تجارة الخدمات سيكون فرص نجاحه أكبر من أي اتفاقات ثنائية أخرى.