ما كتبته في عام 2022 في مقالي المنشور على Investing.com بعنوان “ بعد عام 2022، هل تخرج الأسواق عن السيطرة؟ ” كنت أطرح فيه تساؤلًا استباقياً مشبعاً بالقلق المهني والبحث الاقتصادي الدقيق حول المآلات المحتملة لمسار الاقتصاد العالمي. واليوم، لا يبدو أن الأسواق خرجت عن السيطرة فقط… بل تحولت إلى كيان منفلت يتحدى أدوات الاستقرار التقليدية ويبتلع التوازنات التي صمدت لعقود. ولم يكن مقالي البحثي ذاك مجرّد تحليل عابر لواقعٍ متقلب، بل كان أشبه برؤية مبكّرة لمستقبلٍ يتشكّل بصمت كما أراه بشكل شخصي... مستقبل أصبح اليوم حاضراً صاخباً بالأرقام، بالتوترات، وبالتحولات الهيكلية العميقة التي تُعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي من جديد، ولذلك أدعوك بشدة أيها القارئ العزيز أن تعود إلى ذلك المقال وأن تكمل هنا!، ذلك لأن العالم سلسلة متصلة كما السطور التي فيه!. وأرجو أن تحتمل “ أناي” المتكررة في هذا المقال فإنها ليست لذات وإنما لـ “ أنا مهنية” تَكتبُ بإخلاص للقراء والمتابعين الأعزاء..
في وقتٍ كانت فيه الحرب الروسية الأوكرانية تُحدث شرخاً في جسد النظام العالمي، ومع أولى موجات التضخم التي أرهقت البنوك المركزية، حاولتُ في ذلك المقال آنذاك أن ألتقط جذور الأزمة لا ظواهرها، وأن أُحذر من أعاصير قادمة تختبئ خلف الضباب السياسي والنقدي.
اليوم، وبعد ثلاث سنوات فقط، أعود لمقالي البحثي والتحليلي ذاته لأجد أصداءه حاضرة في كل نشرة مالية، وكل سوق مضطربة، وكل قرار تتخذه قوة اقتصادية كبرى... من عودة السياسات الحمائية على يد ترامب، إلى ترنّح الاقتصاد الصيني، إلى الفجوة المتزايدة بين الأسواق الناشئة والدولار، مروراً باضطرابات سلاسل الإمداد وتجدد تهديدات الركود.
لم يكن الحديث حينها عن أزمة واحدة، بل عن نظام عالمي بأكمله يتعرض لاختبار غير مسبوق. والآن، وسط التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، واضطراب الأسواق المالية، وتجدد المخاوف من ركود عالمي جديد، تبدو تلك التحذيرات المبكرة كأنها نبوءة تخرج من بين سطورها. فإلى أين نحن ذاهبون؟ هل نشهد بداية لانهيار أكبر مما عرفناه في 2008 أو حتى 2020؟أم أن ما يجري اليوم هو ولادة مؤلمة لاقتصاد عالمي جديد يُعاد تشكيله تحت وقع الأزمات؟
هذا ما نعيد استكشافه في مقالي الجديد هذا، عبر ربط الماضي بالحاضر، واستشراف ما يمكن أن يأتي… بلغة تفكك، وتُبسط، وتُحلّل، وتكون سهلة لقرائنا ومتابعينا والمستثمرين الأعزاء.
1. من التشديد إلى التخبط: حين يفقد المالُ اتجاهه
حين كتبتُ في 2022 عن دورة التشديد النقدي العالمية، لم أكن أصف رد فعل لحظي على تضخم مفاجئ، بل أشرت إلى بداية تحول زلزالي في طريقة إدارة الاقتصاد العالمي. يومها، كانت البنوك المركزية الكبرى تتسابق نحو رفع أسعار الفائدة، في مشهدٍ بدا فيه أن الجميع قد آمن بأن الحلّ يكمن في كبح الطلب بأي ثمن.
لكن ما لم يُحسب جيداً، هو أن هذا "التشديد" لم يكن في مواجهة تضخم طبيعي، بل تضخم مولود من رحم اضطرابات جيوسياسية وسلاسل إمداد متكسّرة، لا تستجيب ببساطة لأدوات السياسة النقدية التقليدية! .
اليوم، وبعد ثلاث سنوات، بدأ المشهد ينقلب على نفسه. فالاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي رفع أسعار الفائدة بسرعة قياسية، يجد نفسه في مواجهة تباطؤ اقتصادي واضح، مع تراجع ملحوظ في إنفاق المستهلكين وتباطؤ سوق العمل. الأسواق تتحدث الآن عن تخفيضات محتملة للفائدة خلال ما تبقى من 2025، بعد أن تجاوز المعدل ذروته عند 5.50% في 2023، ليستقر حالياً عند 4.50%، في مسار أقرب إلى التهدئة منه إلى الحسم.
وفي أوروبا، لا تبدو الصورة أفضل حالاً. البنك المركزي الأوروبي يحاول أن يخفف من وطأة الركود الزاحف، مع ارتفاع التكاليف الصناعية وضعف الطلب الاستهلاكي، خصوصاً في ألمانيا وفرنسا. السياسة النقدية هنا فقدت عنصر المفاجأة، وتحولت إلى نوع من التعايش مع الأزمة، لا مواجهتها.
أما اليابان، وسوقها الذي يملك الاستثناء النقدي الطويل، فقد بدأ هو الآخر في التحرك، ببطء وقلق، نحو سياسة أكثر تشدداً. لكن حتى هذه الخطوة ليست سوى محاولة لضبط الإيقاع لا تغييره، في ظل تباطؤ طويل الأمد في الطلب الداخلي.
ما نراه الآن هو فقدان تدريجي لبوصلة السياسة النقدية. من وعود بالسيطرة إلى اعتراف بالحدود. البنوك المركزية، التي كانت تُعامل كالمنقذ في الأزمات، باتت تواجه شكوكاً واسعة في فعاليتها، بعدما أصبح التضخم متعدد الرؤوس – لا يأتي فقط من الطلب، بل من الجغرافيا، والطاقة، والحمائية التجارية.
وهنا، أعود لصدى مقالي السابق بكل وضوح: لقد حذرتُ من أن المعركة مع التضخم لن تُحسم بالفائدة وحدها، وأن محاولات تهدئة الاقتصاد بأساليب كلاسيكية في زمن غير كلاسيكي، ستقودنا إلى ما نحن عليه اليوم: اقتصاد مرتبك، وأسواق تفتقد اليقين، وسياسة نقدية فقدت تماسكها أمام واقع أعقد من أي نموذج مالي تقليدي.
2. الدولار القوي المتخبط… والديون التي تخنق الأسواق الناشئة
لقد توقفتُ مطولاً في السابق أمام صعود الدولار الأمريكي، ووصفت حينها هذا الصعود بأنه أشبه بـ "حبل يشدّ عنق الأسواق الناشئة" من حيث لا يشعر كثيرون، وربما لم يكن ذلك توصيفاً متشائماً بقدر ما كان استشرافاً لواقع نعيشه الآن، فاليوم، ومع تخبط قوة الدولار مدفوعة بفارق أسعار الفائدة والسياسات الحمائية المتصاعدة في الولايات المتحدة، والتوترات الأخيرة بين بكين وواشنطن، تقف دول عديدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية على حافة أزمة تمويل خارجي حقيقية. لم تعد المسألة فقط صعوبة في الوصول إلى الدولار، بل أصبحت كلفة الاقتراض بالدولار تُقارن بكلفة الأزمات السيادية.
ديون غير محوطة، وعوائد منهكة:
العديد من الدول الناشئة، التي راكمت خلال العقد الماضي مستويات تاريخية من الديون المقوّمة بالدولار، لم تواكب ذلك بتحوط كافٍ، سواء عبر احتياطات نقدية صلبة أو عوائد تصديرية قوية. وها نحن نرى النتائج تتكشف:
-
غانا وسريلانكا ولبنان أمثلة لدول دخلت بالفعل في مراحل تعثّر أو مفاوضات لإعادة هيكلة ديونها.
-
مصر وباكستان وتونس تعاني من فجوات تمويل خارجية خانقة، بينما تتآكل عملاتها المحلية أمام الدولار بشكل متسارع.
-
وحتى دول كانت أكثر استقراراً نسبياً، مثل تركيا والأرجنتين، تجد نفسها مضطرة لتقييد حركة العملة واللجوء لآليات استثنائية لامتصاص الضغط الخارجي.
وهنا يُطرح السؤال الحتمي: ما الذي جعل الدولار يتحول من "عملة احتياط" إلى "أداة ضغط"؟
أميركا أولاً... والبقية تنتظر الأوكسجين:
جزء من الإجابة يكمن في التحول السياسي والاقتصادي داخل الولايات المتحدة نفسها. السياسات الجديدة التي أطلقها ترامب — عبر فرض تعريفات جمركية ورفع مستوى التوتر التجاري مع الصين وأوروبا — جاءت لتدعم الدولار، لكنها تسببت في تصدير التضخم إلى الخارج، وسحب السيولة من الأسواق العالمية.
كل دولار يعود إلى الخزانة الأميركية يترك خلفه اقتصاداً ناشئاً يُصارع لسد فجوة الاستيراد، أو لتسديد دين مستحق، أو لتوفير تمويل عاجل للخدمات الأساسية.
في 2022، كتبت أن هذه الديون "مرهونة لجشع المال الأجنبي"، واليوم أضيف بثقة: إنها مرهونة أيضاً لإعادة ترتيب موازين القوة العالمية، حيث تُستعمل العملة كسلاح بارد، لا يُحدث دماراً مباشراً، لكنه ينهك الشعوب والاقتصادات ببطء لا يُرى على الشاشات.
الدولار لم يعد فقط معياراً للتجارة، بل صار أداة تفاضل جيوسياسي. وفي هذا السياق، يصبح الحديث عن "انهيار الأسواق الناشئة" ليس تنبؤاً درامياً، بل سيناريو منطقي في حال استمرار الاتجاهات الحالية دون تدخل هيكلي عالمي يعيد شيئاً من التوازن للنظام المالي الدولي.
3. ترامب يعود… والتجارة تُقيد من جديد
حين كتبتُ في 2022 أيضاً وفي نفس المقال أن العالم يسير نحو "ركود مصنّع"، لم تكن العبارة آنذاك سوى توصيف دقيق لحالة تشابك السياسات النقدية بالتوترات الجيوسياسية. لكن ما لم يكن قد تبلور بعد حينها، هو عودة الولايات المتحدة إلى سياسات الحماية الاقتصادية بقوة أكبر من أي وقت مضى، تحت شعار "أميركا أولاً" الذي بات في 2025 أكثر رسوخًا منه في أي وقت سابق.
الرئيس دونالد ترامب، في ولايته الجديدة، لم يضيّع وقتاً. فعاد مباشرة إلى استخدام سلاح التعريفات الجمركية، مستهدفاً الصين بشكل مباشر، ورافعاً الرسوم على بعض وارداتها إلى ما يفوق 100%، وليس هذا فقط، بل وسّع الإجراءات الحمائية لتشمل سلعاً من أوروبا، والمكسيك، وحتى بعض المنتجات التكنولوجية من كوريا الجنوبية.
هذه الخطوات، التي وصفها البعض بـ "حرب تجارية شاملة"، لم تُترك دون ردّ كما نعرف. الصين بدأت خطوات مضادة، عبر تقليص الاعتماد على المنتجات الأمريكية، وفرض قيود على تصدير بعض المعادن النادرة، ما يهدد الآن سلاسل إنتاج التكنولوجيا في الغرب.
الأثر على التجارة العالمية:
النظام التجاري العالمي، الذي بُني منذ التسعينيات على فكرة "الانفتاح والتكامل"، يبدو اليوم وكأنه في حالة نكوص.
العولمة التي غذّت النمو لعقود، تُستبدل شيئاً فشيئاً بـ"تكتلات مغلقة" وممرات تجارية محدودة النفاذ. والشركات العالمية الكبرى، التي بنت سلاسل توريد معقدة تمتد عبر ثلاث قارات، أصبحت تبحث الآن عن بدائل مكلفة وبطيئة.
أكثر من ذلك، فإن ما كنا نحذر منه في سابقاً على Investing.com إلى جانب العديد من الخبراء والمحللين الاستراتيجيين حول هشاشة سلاسل الإمداد – خاصة في ظل التوترات الجيوسياسية – أصبح الآن واقعاً يُجبر الشركات على إعادة التموضع، والاقتصادات على دفع فاتورة باهظة من حيث التكاليف الإنتاجية وارتفاع الأسعار.
الحمائية ليست حلاً… بل موجة عكسية:
ما يجري الآن ليس مجرد توتر عابر بين واشنطن وبكين بكل تأكيد، بل يعكس تحوّلاً استراتيجياً في فلسفة النمو العالمي، والرأسمالية التي كانت تعتمد على التعاون بدأت تنغلق على ذاتها، والدول بدأت تتعامل مع التجارة كمجال نفوذ لا كمنفعة متبادلة.
وهنا أعود لمقولتي في مقالي السابق لنأخذ بها بُعداً أعمق في هذا السياق:
"مع التوتر الجيوسياسي تولد أسواق هشة واتصال قنوات التجارة يهدد الناتج الإجمالي."
فالذي تهدده اليوم هذه السياسات ليس فقط التبادل التجاري، بل أسس النمو العالمي برمتها، من التصنيع إلى التكنولوجيا، ومن الاستثمار إلى الاستهلاك.
4. أوروبا على جمر الطاقة… أزمة لم تُطفأ
لقد وصفت سابقاً الصدمة الطاقية التي أصابت أوروبا إثر الغزو الروسي لأوكرانيا بأنها بداية "نزيف هيكلي"، لا مجرد أزمة طارئة. كنت أتابع حينها كيف انقلبت معادلات الطاقة رأسًا على عقب، وكيف أن الاقتصادات الأوروبية وجدت نفسها فجأة أمام سؤال وجودي: كيف تستمر بالنمو بلا وقود؟
اليوم، وبعد مرور ثلاث سنوات، لا تزال آثار تلك الصدمة تتردد كالصدى في جدران الصناعة الأوروبية، بل وتتعمّق في نسيج اقتصاد القارة، لتكشف أن المسألة ليست مجرد تأمين غاز بديل إطلاقاً، بل تغييرٌ كامل في بنية الإنتاج وتكلفة التشغيل والتنافسية الدولية.
أوروبا… تدفع الثمن البعيد:
رغم أن الاتحاد الأوروبي استطاع جزئياً تنويع مصادر الغاز — من النرويج، والولايات المتحدة، وشمال إفريقيا — فإن الأسعار لم تعد إلى سابق عهدها. بل الأدهى من ذلك، أن هشاشة الإمدادات جعلت الأسواق الأوروبية عرضة لأي اضطراب مناخي أو سياسي طارئ.
-
الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، مثل الألمونيوم والأسمدة والزجاج، باتت تواجه قرارات صعبة: إما تقليص الإنتاج أو الخروج الكامل من السوق الأوروبية.
-
في ألمانيا، قلعة الصناعة الأوروبية، انخفض إنتاج بعض القطاعات الحيوية بنسبة تصل إلى 20%، وفق بيانات 2024، مع انتقال بعض المصانع إلى أوروبا الشرقية أو حتى الولايات المتحدة حيث الطاقة أرخص وأكثر استقرارًا.
الركود الهيكلي: صامت لكنه قاتل
ما يواجهه الاقتصاد الأوروبي اليوم ليس مجرد تباطؤ، بل نوع من الركود الصامت؛ حيث لا انهيار مفاجئ، لكن أيضاً لا نمو فعلي.
نمو الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو لم يتجاوز 0.7% في 2024، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يبقى دون 1.2% في 2025 — فهل يا ترى يا عزيزي القارئ سأكون وحيداً من يرى أنها أرقام لا تليق باقتصاد قاري يضم أكثر من 340 مليون نسمة! أم ينضم إلي في ذلك أنت إلى جانب الآلاف والآلاف من القراء؟ .
الطلب الاستهلاكي ضعيف، والاستثمار الخاص متردد، والحكومات مكبّلة بديونها المتضخمة. كل هذا يُضاف إلى أزمة الطاقة، فيخلق حلقة مفرغة من البطء الاقتصادي والتضخم الكامن والتراجع التنافسي.
حين يصبح الغاز سلاحًا
كتبت في فترة سابقة أن "ضعف خطوط إمداد الغاز المفاجئة قد تسبب في زيادة واضحة لأسعار الطاقة مما يعني زيادة في تكاليف الإنتاج كحالة طبيعية"، واليوم يتضح تماماً أن ما حصل لم يكن مجرد موجة سعرية عابرة، إنه بالفعل تحول استراتيجي في موقع أوروبا ضمن الاقتصاد العالمي.
فعندما تكون الطاقة مرتفعة، تكون الصناعة أضعف. وعندما تضعف الصناعة، تتراجع قدرة القارة على التصدير والابتكار وحتى الحفاظ على الوظائف. أوروبا الآن لا تخشى فقط أزمة طاقة، بل تخشى أن تتحوّل إلى قارة خدمات أكثر منها قارة إنتاج.
5. الصين… العملاق المتعب يترنّح تحت ثقله
وصفت ما يحدث في الصين لاحقاً بأنه "أزمة عملاق التجارة"، وأشرت إلى أن أزمة قطاع العقارات، وتداعيات الإغلاق المتوتر بسبب كورونا، إلى جانب انخفاض قيمة الرنمينبي أمام الدولار، كلها عوامل تُنذر بأن بكين لم تعد تُشكّل القاطرة التي تدفع الاقتصاد العالمي، بل قد تُصبح أحد مكامن الضعف فيه.
لم تمضِ سنوات ثلاث، حتى بدأت تلك المؤشرات تأخذ طابعاً مؤسسياً واضحاً، فالصين اليوم — في 2025 — لم تعد تنمو بذلك الزخم الذي اعتدناه، بل إن علامات التباطؤ أصبحت بنيوية، تتسلل إلى مفاصل الدولة، من سوق العمل إلى الاستثمار الأجنبي.
عقارات تنهار… وثقة تتآكل
أزمة العقارات التي كانت في بدايتها عام 2021، باتت الآن أعمق بكثير مما تصوّره السوق. شركات تطوير عقاري عملاقة مثل Evergrande (HK:3333) و Country Garden إما أفلست فعلياً أو تخضع لإعادة هيكلة مؤلمة، ومعها انهارت أركان رئيسية من الثقة في القطاع العقاري، الذي كان يشكل ما يقرب من 25% من الناتج المحلي الإجمالي.
-
ملايين الشقق غير مكتملة البناء تُركت كأشباح في أطراف المدن.
-
الطبقة الوسطى، التي كانت تدخر في العقارات، فقدت جزءاً كبيراً من ثروتها الورقية.
-
الحكومة المركزية تجد نفسها أمام معضلة: هل تنقذ القطاع بالكامل أم تتركه يتهالك لضمان "تصحيح طبيعي"؟
معدلات البطالة بين الشباب تجاوزت 20%، وفق إحصاءات 2024، ما دفع الحكومة الصينية إلى إيقاف نشر بعض بيانات البطالة بشكل رسمي، في محاولة للحد من القلق الشعبي. هذه الأرقام ليست مؤشرات اجتماعية فحسب، بل جاءت كإنذار بتراجع الاستهلاك الداخلي، وهو المحرك الذي كانت الصين تسعى للاعتماد عليه بدلاً من التصدير.
وبذلك فإنه .. عندما يُصاب عملاق اقتصادي كالصين بالوهن، لا يتوقف الأثر عند حدوده. فالدول التي ترتبط معها تجارياً — من البرازيل إلى إندونيسيا، ومن جنوب إفريقيا إلى ألمانيا — بدأت تشعر بارتدادات التباطؤ.
الطلب الصيني على المعادن، والطاقة، والمنتجات الصناعية انخفض، مما خلق فجوة في ميزان التجارة العالمية، وانخفضت تدفقات رؤوس الأموال إلى الأسواق الناشئة التي كانت تراهن على "التنين" كمستورد نهائي ونقطة انطلاق.
من مقالي السابق أيضاً: "رؤوس الأموال تهرب..."
قلت حينها: "تأثرت بعض أسواق البلدان الناشئة حول العالم فعلاً بأزمة عملاق التجارة خصوصاً بعد هرب الكثير من رؤوس الأموال إلى الخارج."
وها نحن اليوم نرى أن ذلك الهروب لم يكن ظرفياً، بل تحوّل إلى نزيف مالي حقيقي. الشركات الأجنبية باتت تعيد تقييم وجودها في السوق الصينية، خوفاً من القواعد التنظيمية المتقلبة وتباطؤ العائد الاستثماري.
لقد تحوّلت الصين، لا إلى "خطر مالي خارجي"، بل إلى مرآة للأزمة الداخلية الكبرى التي يمكن أن تصيب حتى أقوى الاقتصادات عندما تُراكم الأزمات دون حلول شاملة.
6. الأسواق الهشّة… حين تتبخر السيولة وتكبر الصدمة
إن عبارة أن "جودة أي سوق من الأسواق تعتمد على كمية التدفقات النقدية فيه"، هي عبارة يعي السوق تماماً ثقلها. لكن ما لم يكن ظاهراً للكثيرين، هو أن العالم على وشك أن يواجه واحدة من أكثر الفترات جفافاً في السيولة منذ الأزمة المالية العالمية 2008 — جفاف لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يُترجم على الشاشات كل يوم في هيئة تقلبات حادة، وخسائر مفاجئة، وهروب جماعي من الأصول عالية المخاطر.
اليوم، ونحن في منتصف 2025، يمكن القول بثقة إن الأسواق لم تعد كما كانت. "عمق السوق" تقلّص، ومزودو السيولة صاروا أكثر تردداً في تحمّل المخاطر، والبنوك المركزية الكبرى – بعد سنوات من التيسير ثم التشديد – تقف حائرة: بين اللا مساحة للضخ مجددًا، واللا قدرة على سحب المزيد.
هروب السيولة… وصدى أسعار الفائدة:
مع بقاء أسعار الفائدة في مستويات مرتفعة نسبياً، وغياب مؤشرات واضحة على تحول سريع في السياسة النقدية، تقلّصت قدرة الأسواق على توليد سيولة طبيعية من التداول. أصبح كثير من المتعاملين الكبار — سواء صناديق التحوط أو البنوك الاستثمارية — يفضلون الاحتفاظ بالأصول منخفضة المخاطر، ويبتعدون عن ضخّ سيولة في أسواق الأسهم والسلع والعملات.
هذا الانسحاب التدريجي جعل الهوامش أكثر اتساعاً، وفوارق العرض والطلب أكثر حدّة، وهو ما حذرت منه شخصياً في مقالي السابق حين تحدثت عن أن:
“عمق السوق هو متوسط الكميات المتاحة للشراء أو البيع بأفضل الأسعار المعلنة، وكلما قلّ هذا العمق، ارتفعت كلفة التداول وتقلّصت السيولة .” كنتيجة طبيعية وبديهية بكل تأكيد.
والنتيجة إذاً؟ أسواق هشّة لا تحتاج إلى زلزال، بل إلى "اهتزاز خفيف" لتسقط بعض أركانها.
ما بعد التكنولوجيا… أسواق بلا بوصلة:
حتى أسواق التكنولوجيا، التي كانت تقود الزخم في سنوات ما بعد الجائحة، دخلت الآن مرحلة ترقب حذِر. شركات كبرى مثل Apple وTesla وMeta فقدت جزءاً من قيمتها السوقية خلال النصف الأول من 2025، وسط موجات بيع عشوائية، وضبابية تنظيمية، وتراجع توقعات النمو.
أما العملات المشفّرة، التي مثلت يوماً ما أفقاً مفتوحاً للسيولة "اللامركزية"، فهي الأخرى تعاني من انخفاض حاد في التدفقات اليومية، مع تجدد القلق التنظيمي، وضعف الثقة المؤسسية، وغياب “القصة الاستثمارية الموحدة”.
المال الخائف… لا يصنع أسواقًا مستقرة:
تلك السيولة التي كانت تتدفق بسهولة خلال حقبة "الأموال الرخيصة"، أصبحت اليوم تتحرك بحذر، وتختبئ عند أول إشارة اضطراب. والنتيجة أن الأسواق لم تعد مرآة للاقتصاد فقط، بل صارت انعكاساً مباشراً لمخاوفه المتزايدة.
كتبت في 2022 أيضاً أن "انخفاض عمق السوق سيكون غير مؤقت" — واليوم أقول:
إنه لم يكن فقط غير مؤقت… بل أصبح سَمتاً هيكلياً لعصر “ما بعد اليقين المالي”.
7. هل نشهد انهياراً فعلياً؟ أم أننا فقط نرى العالم وهو يعيد تعريف نفسه؟
لا شيء يُقال هذه الأيام دون أن يُربط بكلمة "الانهيار". انهيار الأسواق. انهيار الثقة. انهيار النظام التجاري العالمي.
لكن الحقيقة، كما أراها من موقع التحليل المتأني، هي أن ما يحدث اليوم أعقد بكثير من مجرد انهيار كلاسيكي كما حدث في 2008 أو أثناء جائحة 2020. نحن لا نسقط من قمة إلى هاوية… بل ننزلق ببطء نحو نقطة انعطاف حادة تُغيّر شكل الاقتصاد العالمي وتعيد كتابة قواعده.
الركود؟ نعم. الانهيار؟ ليس بعد… لكن الاضطراب شامل
تشير البيانات الصادرة عن صندوق النقد الدولي إلى أن نمو الاقتصاد العالمي في عام 2025 سيكون عند حدود 3.1%، وهو رقمٌ بالكاد يُبقي رأس العالم فوق سطح الماء. ولكن حين ندخل داخل التفاصيل، نجد الصورة أكثر قتامة:
-
منطقة اليورو تسير في خط ركود مستتر، حيث لم يتجاوز النمو 1% في 2024 ويتوقع أن يبقى تحت 1.2% هذا العام.
-
الصين تخسر زخمها، مع تراجع الاستثمار الخاص وتباطؤ الطلب الخارجي.
-
الولايات المتحدة تكافح من أجل منع الركود عبر خفض تدريجي للفائدة، لكن الاستهلاك يتراجع والشركات تعيد هيكلة خططها التوسعية.
-
الأسواق الناشئة تخوض معركة يومية ضد الدين الخارجي، وضغوط التضخم، ونقص السيولة.
كل تلك المؤشرات تُنبئ أننا لسنا في لحظة انهيار شامل مفاجئ، بل في مشهد تفكك بطيء في توازنات العولمة القديمة، حيث لم يعد التعاون هو العنوان، بل التقوقع، والتوجس، والمصالح القومية الضيقة.
التحولات الخفية… ما تحت السطح أكبر مما فوقه
ما يزيد من خطورة المرحلة الحالية هو أن التحولات الجارية ليست مؤقتة. لم نعد نتحدث فقط عن أسعار فائدة مرتفعة أو أسعار طاقة غير مستقرة، بل عن:
-
إعادة رسم خارطة سلاسل الإمداد، حيث الشركات تنسحب من أسواق كانت تعدّها آمنة.
-
تبدّل في مركز الثقل الاقتصادي العالمي، حيث تتراجع ثقة المستثمرين في "نموذج الصين" من جهة، وتعود الولايات المتحدة إلى معسكر الحمائية الصريحة من جهة أخرى.
-
اهتزاز في الثقة بالمؤسسات الدولية، من منظمة التجارة العالمية إلى صندوق النقد الدولي، حيث لم تعد تلك الأطر قادرة على فرض التوازن، ولا حتى على تهدئة الصراعات الاقتصادية.
في مقالي لعام 2022، ختمت الفقرة الأخيرة بالقول إن "العالم سيتعافى بصعوبة، وقد يعاني من موجة ركود قادمة لا محالة"، واليوم لا أجد وصفاً أصدق لما يجري.
لكن ربما الأهم من ذلك هو أننا لا نعاني فقط من ركود في المؤشرات، بل من اضطراب في المفاهيم:
ما هو النمو؟ ما معنى السيولة؟ من يملك القرار النقدي؟ وما دور الدولار في عالم أصبح أكثر تشتتاً من أي وقت مضى؟
الانهيار ليس سقوطاً… بل إعادة تعريف للقوة!
الاقتصاد العالمي لا ينهار بشكل تقليدي كما يتخيله البعض — انهيار البورصة، إفلاس البنوك، أو أزمة عملة كبرى — بل يتآكل من الأطراف: ثقة المستثمرين، استقرار الأسعار، وقدرة الأسواق على التنبؤ.
وإذا استمر التوتر الجيوسياسي، وتفاقمت الحروب التجارية، واستمر التباطؤ في الصين وأوروبا، فقد لا نكون أمام انهيار مالي، بل أمام نهاية "النسخة الحالية من الاقتصاد العالمي" كما نعرفه.
وهذا، بطبيعة الحال، أخطر بكثير من الانهيار الذي له تاريخ بداية ونهاية.
حين لا يكون السؤال "متى نتعافى؟" بل "ماذا نحن بصدد أن نصبح؟"
في أوقات الأزمات، يبحث الناس عن إجابات سريعة. متى تنخفض الأسعار؟ متى تنتعش الأسواق؟ متى تهدأ السياسة النقدية؟
لكن إن كان لهذا المقال من خلاصة، فهي أن السؤال لم يعد "متى" بل "كيف وماذا"؟
كيف سنعيد هيكلة النظام الاقتصادي العالمي؟ وماذا سنُصبح بعد هذه التحولات الطويلة التي طالت كل شيء: من التجارة إلى الطاقة، من السيولة إلى السيادة؟
ما نراه اليوم يا عزيزي القارئ صدقني ليس بأزمة عابرة، بل لحظة تحول مفصلية في تاريخ المال العالمي.
عالم ما بعد الجائحة، والغزو الروسي، والحمائية التجارية، والتضخم المتجدد، ليس هو نفس العالم الذي عرفناه قبل 2020 أو قبل 2008 — حتى وإن بدت العناوين مألوفة، فإن القواعد تغيّرت، والمخاطر أصبحت أوسع، والفرص… أقل يقيناً وأكثر تعقيداً.
للمستثمرين:
هذا ليس زمن المضاربات السريعة ولا المكاسب السهلة. إنه زمن القراءة العميقة، والتحوّط الذكي، وتوزيع المخاطر لا مراكمة الجرأة.
الأسواق لن تنهار فجأة، لكنها قد تذبل بهدوء أمام أعيننا، إن لم نعد تقييم ما نملكه من أدوات تحليل، ومنهجية قرار.
ابحث عن القيمة، لا الضجيج. راقب الاتجاهات الهيكلية، لا العناوين اللحظية. واحذر من الاستثمارات القائمة على "الذاكرة"، فالعالم لم يعد كما كان، كرأي شخصي لا توصية ..
وللقارئ العزيز:
إذا بدا لك كل شيء غير مفهوم، فاعلم أنك لست وحدك.
الاقتصاد ليس مجرد أرقام وأسواق، بل قصة تُكتب على مدى سنوات. وما نمر به اليوم، هو فصل من تلك القصة… فصل مشحون بالخوف، لكنه أيضاً مليء بالأسئلة الصحيحة التي إن طُرحت بجرأة، فقد تُنتج نظاماً أكثر عدلاً واستدامة.
وأخيراً…
حين كتبت في 2022، لم أكن أزعم امتلاك التنبؤ، بل ما يشبه الرؤية المبكرة. واليوم، وأنا أكتب هذه السطور في 2025، أجد أن الرؤية لا تزال ضرورية، وربما أصبحت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
فالعالم لا يعود أبدًا إلى ما كان عليه، بل يُعاد تشكيله في كل أزمة…
والأذكى ليس من يقرأ السوق، بل من يقرأ اتجاه التاريخ المالي وهو لا يزال قيد الكتابة.
كل ما ورد في هذا المقال يعبر عن رأي شخصي.