من آندرو أوزبورن
(رويترز) - في وقت مبكر من يوم 19 سبتمبر أيلول، أعطى رئيس أذربيجان إشارة البدء لهجوم عسكري خاطف في إطار خطة جرى الإعداد لها قبل أشهر بهدف إعادة ترسيم الخريطة الجيوسياسية والثأر لهزيمة مذلة مُني بها والده قبل نحو 30 عاما.
وكثيرا ما تحدث الرئيس إلهام علييف، الذي يتولى السلطة منذ عقدين وخاض حربا ناجحة بالفعل، عن إعادة جيب ناجورنو قرة باغ الجبلي إلى السيطرة الكاملة لأذربيجان بعد أن انفصل سكانه الذين ينتمون لعرقية الأرمن عن حكم باكو في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
وقال إلين سليمانوف، سفير أذربيجان لدى بريطانيا، لرويترز إن مجموعة من العوامل أقنعت علييف (61 عاما) بأن الوقت بات مناسبا.
وذكر سليمانوف "يسلك التاريخ منعطفات ومنحنيات". وأردف "لم يكن بوسعنا فعل هذا سابقا وربما لن تكون فكرة سديدة أن نفعل ذلك لاحقا".
وأضاف سليمانوف الذي عمل في السابق في مكتب علييف "صارت الظروف مواتية لأسباب معينة واغتنم الرئيس علييف الفرصة".
ومن بين هذه "الظروف" البارزة هي عدم قدرة روسيا أو الغرب أو أرمينيا على التدخل لحماية ناجورنو قرة باغ أو عدم استعدادهم للقيام بذلك في الأساس. وذكرت أذربيجان أن الجيب الذي كان يتمتع بالحكم الذاتي كان لديه عشرة آلاف مقاتل تحت تصرفه، لكن جيش أذربيجان الذي يقدر خبراء غربيون قوامه بأكثر من 120 ألف جندي بدا كالعملاق مقارنة بمقاتلي الجيب.
وأكد مسؤولان كبيران ومصدر يعمل مع علييف خلال محادثات مع رويترز أن قرار استعادة الإقليم الانفصالي تبلور على مدى أشهر في ظل تغير الواقع الدبلوماسي.
وذكروا أيضا أن المسألة لها عمق شخصي بالنسبة للرئيس.
وقال علييف متحدثا إلى شعب أذربيجان بعد يوم من تنفيذ العملية العسكرية إنه أمر جنوده بعدم إيذاء المدنيين. وقالت باكو لاحقا إن 192 من جنودها قُتلوا خلال العملية. وقال أرمن قرة باغ إنهم فقدوا أكثر من 200 شخص.
وذكر أحد المصادر الذي طلب عدم ذكر اسمه لأنه غير مخول بالإدلاء بتعليقات للإعلام "يكمل الرئيس علييف شيئا لم يستطع والده فعله لأن الوقت لم يمهله".
وقال حكمت حاجييف مستشار السياسة الخارجية لعلييف خلال ثلاث مقابلات، إحداها قبل العملية العسكرية، إن صبر باكو على الوضع الراهن قد نفد.
وذكر حاجييف لرويترز قبل أقل من أسبوعين من اجتياح قوات أذربيجان جيب قرة باغ أن باكو لا تسعى إلى أي أهداف عسكرية "في هذه المرحلة"، لكنها تظل متأهبة. وأضاف أن باكو لا يمكنها قبول ما وصفها بأنها "منطقة رمادية" مع وجود قوات الأمن المسلحة الخاصة بقرة باغ، وهو أمر شبهه بالمافيا على أراضي أذربيجان.
وتم حل قوات دفاع قرة باغ منذ ذلك الحين بموجب شروط اتفاق وقف إطلاق نار جديد، لكنها رفضت انتقادات أذربيجان في السابق ووصفت نفسها بأنها قوة قتالية مشروعة.
وفي يوم العملية العسكرية وبعد انحسار القتال، أعد حاجييف قائمة بما وصفها "عناصر استثارة" دفعت باكو إلى اللجوء إلى الخيار العسكري، مشيرا إلى انفجار لغم أرضي أدى إلى مقتل اثنين من المدنيين من أذربيجان في وقت سابق من ذلك اليوم في جزء من قرة باغ كانت باكو قد استعادته خلال حرب في 2020.
وصرح حاجييف "طفح الكيل".
وأشار علييف أيضا إلى انفجار اللغم وحادث مشابه نجم عنه مقتل أربعة آخرين. ووصف أرمن قرة باغ هذه التأكيدات بأنها "محض كذب". ولم يتسن لرويترز التحقق بشكل مستقل من صحة الأحداث.
وتنحت روسيا، التي تملك قوات حفظ سلام على الأرض لكنها منشغلة بحربها مع أوكرانيا، جانبا خلال العملية.
وقال حاجييف إن أذربيجان أرسلت إلى الروس "إخطارا قبل دقائق" من بدء العملية.
ولم يستجب نيكول باشينيان رئيس وزراء أرمينيا المجاورة، التي خاضت حربين كبيرين بسبب قرة باغ، لدعوات السياسيين المعارضين للتدخل وقال إن بلاده بحاجة إلى أن تكون "خالية من الصراع" من أجل استقلالها.
واكتفى الغرب، الذي حاول التوسط سابقا، بدعوة علييف بإيقاف العملية، لكن ذلك وقع على آذان صماء.
* فرصة سانحة
يزداد غليان المشكلة منذ أشهر.
وبدا أن علييف استشعر وجود فرصة سانحة مع انشغال روسيا في حربها بأوكرانيا.
وفي ديسمبر كانون الأول الماضي، بدأ مواطنون من أذربيجان، يصفون أنفسهم بأنهم ناشطون بيئيون غير راضين عن عمليات التعدين غير القانونية، بإغلاق ممر لاتشين، وهو الطريق الوحيد الذي يربط قرة باغ بأرمينيا.
وقال مسؤولو قرة باغ حينئذ إن المحتجين يشكلون غطاء ويوجد بينهم مسؤولون من أذربيجان. ونفت باكو الاتهام.
ولم تتحرك قوات حفظ السلام الروسية المسلحة، التي بدت أنها تحجم عن المخاطرة بتصعيد الموقف، لفض المحتجين بالقوة.
وفي محاولة في مايو أيار لتحريك مفاوضات السلام، قدم رئيس الوزراء الأرميني باشينيان ما بدا أنه عرض يمثل انفراجا، وهو أن أرمينيا مستعدة للاعتراف بقرة باغ بوصفه جزءا من أذربيجان إذا ضمنت باكو أمن عرقية الأرمن في الإقليم.
وبدا أن علييف اغتنم ما اعتبره اعترافا تأخر كثيرا بالأمر الواقع كدلالة على ضعف أرمينيا. ووصف المصدر الذي يعمل مع علييف التحول بأنه "مهم للغاية".
* مسألة لم تنته
أفلت إقليم قرة باغ من قبضة أذربيجان في الفوضى التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي. وقُتل زهاء 30 ألف شخص ونزح أكثر من مليون، أكثر من نصفهم من مواطني أذربيجان، خلال حرب امتدت من عام 1988 إلى عام 1994.
وأُجبر حيدر علييف، والد إلهام علييف ورئيس أذربيجان آنذاك، على الموافقة على وقف إطلاق نار رسّخ انتصار أرمينيا.
ولأعوام، تسبب تحالف موسكو ومعاهدتها الدفاعية المبرمة مع أرمينيا، التي تملك فيها روسيا منشآت عسكرية، في ردع باكو عن استخدام القوة حتى مع بيع روسيا أسلحة لكلا البلدين.
لكن علاقات موسكو مع أرمينيا بدأت في التدهور في 2018 حينما قاد باشينيان، وهو صحفي سابق، احتجاجات في الشوارع صعّدته إلى السلطة على حساب عدد كبير من الزعماء الأرمن الموالين لروسيا.
وفي ظل تكثيف حملة جيش أذربيجان للتعديل والتحديث، لم تلبث أرمينيا أن تقع في أزمة بعد خروجها من أخرى.
ومع ملاحظة كون الكراهية متبادلة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وباشينيان الذي رجّح إقامة علاقات مع الغرب، اختبر علييف حساسية الموقف قبل المضي قدما.
ففي 2020، شن حربا استمرت 44 يوما انتصر فيها جيشه بمساعدة من طائرات مسيرة تركية متقدمة، ما قادهم إلى استعادة جزء من أراضي قرة باغ.
وتوسطت روسيا في وقف لإطلاق النار بدا أنه انتصار لموسكو، ما سمح لها بنشر قرابة ألفي جندي حفظ سلام في قرة باغ. وأكسبت الخطوة موسكو حضورا عسكريا في أذربيجان، فيما يبدو أنه تهدئة لأي تحركات عسكرية إضافية من طرف أذربيجان.
لكن غزو موسكو الشامل لأوكرانيا في فبراير شباط 2022 غيّر المعادلة من جديد، إذ أدخل موسكو في حرب ضروس مع كييف.
* أجواء ضبابية
في صباح يوم 19 سبتمبر أيلول، استيقظ سكان ستيباناكيرت عاصمة قرة باغ المعروفة باسم خانكندي في أذربيجان على دوي نيران المدفعية التي تكررت وسط أجواء ضبابية.
بدأت ما وصفها علييف بأنها عملية لمكافحة الإرهاب باجتياح من قوات برية مدعومة بطائرات مسيرة وستار من المدفعية لاجتياح خطوط قرة باغ الدفاعية.
وقُتل خمسة روس في العنف الذي تلا العملية فيما يبدو أنه حادث اعتذر عنه علييف لبوتين.
وأعلنت باكو الانتصار في غضون 24 ساعة ووافق مقاتلو قرة باغ الأرمن على وقف إطلاق نار ألزمهم بتسليم أسلحتهم.
وقال أرمن قرة باغ إنهم شعروا بالخيانة من جميع الأطراف.
وذكر ديفيد بابايان، مستشار لزعيم حكومة قرة باغ، لرويترز بعد يوم من العملية شاكيا "تُرك قرة باغ بمفرده، لم توفّ قوات حفظ السلام الروسية عمليا بالتزاماتها، تخلى عنا الغرب الديمقراطي، وغضت أرمينيا أيضا طرفها عنا".
وقال علييف للأمة "استعادت أذربيجان سيادتها في نحو الواحدة مساء يوم أمس".
وبعد أربعة أيام من العملية، بدأ بعض أرمن قرة باغ البالغ عددهم 120 ألف نسمة ما تحول إلى نزوح جماعي بالسيارات صوب أرمينيا، قائلين إنهم يخشون الاضطهاد والتطهير العرقي على الرغم من تعهد أذربيجان بضمان سلامتهم. وقالت سلطات يريفان إن 98 ألف شخص فروا إلى أرمينيا بعد عشرة أيام من هجوم أذربيجان.
وبالنسبة لأذربيجان، تمهد استعادة قرة باغ الطريق أمام عودة عشرات الآلاف من مواطني أذربيجان الذين فروا سابقا، وهي عودة تعهد بها حيدر علييف مرارا وتكرارا.
وقال سليمانوف سفير أذربيجان لدى بريطانيا "وفّى الرئيس (إلهام) علييف بتعهد والده".
(إعداد محمد أيسم للنشرة العربية - تحرير حسن عمار)