في خضم انشغال الأسواق العالمية بتتبع معالم السياسات النقدية المقبلة وتداعيات ما يعرف بالحرب التجارية التي يخوضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي قد تدفع بالعالم نحو شفير الركود والانكماش الاقتصادي، يغفل كثيرون عن إشكالية أعمق وأشد خطورة لم يسبق للولايات المتحدة أو للأنظمة الديمقراطية الحديثة أن عايشتها بهذه الحدة من قبل.
إذ إن الضغوط التي تمارسها الإدارة الأمريكية اليوم على الاحتياطي الفيدرالي ترتقي إلى مستوى محاولة جريئة لتدخل سافر يهدد أسس استقلالية المؤسسة النقدية، في محاولة لاستغلال الأدوات النقدية لخدمة أجندات سياسية وانتخابية، بدلا من أن تدار وفق معطيات رقمية ومؤشرات اقتصادية خالصة.
علما بأن محاولات السلطة التنفيذية التأثير في قرارات الاحتياطي الفيدرالي ليست وليدة اليوم، إذ شهد التاريخ أمثلة عديدة، منها ضغوط الرئيس ليندون جونسون على ويليام مارتن للحيلولة دون رفع أسعار الفائدة بهدف تمويل مشاريع "المجتمع العظيم" وخوض حرب فيتنام، ومساعي الرئيس ريتشارد نيكسون للضغط على آرثر بيرنز من أجل الإبقاء على أسعار الفائدة متدنية قبيل الانتخابات، فضلا عن حرص هاري ترومان على إبقاء نسب الفائدة منخفضة عقب الحرب العالمية الثانية لتمويل الديون الضخمة ودعم جهود إعادة الإعمار.
بيد أن ما يميز فترة الرئيس ترامب هو الطابع العلني والفج لانتقاداته وتهديداته المباشرة لرئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، على نحو يتنافى مع الأعراف المستقرة بين الرئاسة والفيدرالي في الولايات المتحدة. بل إن الأمر بلغ حد تمرير رسائل علنية عبر تصريحات ترامب بشأن نيته تعيين عضو موال لأفكاره، ما قد ينطوي على مساع لزعزعة الفيدرالي من الداخل.
من هنا تبدو الإدارة الأمريكية الراهنة متبنية منحى سياسيا يثير المخاوف بشأن مناخ الاستثمار عموما، ويضرب بشكل صريح الهيكل التنظيمي للسياسات النقدية خدمة لمصالحها، لا سيما أنها تدخلت فعليا في مؤسسات أخرى، الأمر الذي يطرح اليوم نقاشات دستورية لدى النخب الأمريكية.
غير أن محاولة النيل من صلاحيات الاحتياطي الفيدرالي وتجريده من استقلاليته قد تضع هذه المؤسسة العريقة في موقف حرج بين التمسك بدورها المؤسسي القائم على لغة الأرقام والمعطيات الاقتصادية الموضوعية، وبين الرضوخ للضغوط السياسية العلنية التي قد تفرض عليها، فيختل بذلك ميزان الاستقرار النقدي والمالي. وهنا يطرح السؤال: ما الذي قد يعنيه ترويض الفيدرالي من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة إن نجحت فعلا في ذلك؟ وما الأثر الذي قد يتركه على الأسواق في المدى الطويل؟