الصين التي تستحوذ على ما يزيد عن نصف نشاط "تعدين" العملات المشفرة عالميا، انقلبت في أيام قليلة لأكبر عدو لتلك الصناعة، وأصدرت العديد من اللوائح، والقوانين المجرمة لتلك الأنشطة، بل وكل ما يتعلق بتداول وتسهيل تداول، والاستشارات في هذا المجال.
لتقضي الصين على واحدة من أكبر مناطق تلك الصناعة في العالم.
ولتبدأ مرحلة جديدة من الصعوبات التي يواجهها ذلك السوق
بدأت القصة يوم الجمعة 21 مايو 2021، عندما قالت لجنة الاستقرار المالي والتنمية، إن الصين ستتخذ إجراءات صارمة ضد أنشطة تعدين البيتكوين وتداولها.
مما أدي لتراجع أسعار البتكوين بحوالي 30%، وخسارة تخطت التريليون دولارا أمريكيا من قيمتها السوقية.
وأخبر "ليو هي" نائب رئيس الحكومة الشعبية المركزية مجموعة من المسؤولين الماليين أن الحكومة ستضيّق الخناق على تعدين البتكوين وأنشطة التداول لضمان الاستقرار المالي.
لكن الملفت أن اللجنة المذكورة أردفت بالقول إنها ستحافظ على استقرار أسواق الأسهم والسندات والعملات.
وأشارت في بيان إلى أن السياسة النقدية الحكيمة للصين ستكون مرنة وهادفة ومناسبة، بينما ستحافظ على استقرار سعر صرف اليوان بشكل أساسي عند مستويات معقولة ومتوازنة.
وهذا يثير بعض الشك في دوافع محاربة نشاط "تعدين" البتكوين في الصين.
حيث أشارت الكثير من التقارير إلى أن ذلك مرتبط بهدر الطاقة، حيث تستنزف تلك العمليات كميات كبيرة جدا من الكهرباء (SE:5110).
خاصة وأنه قد لوحظ تنقل "المعدنين" بين مناطق الصين التي توفر الطاقة الكهربية بأسعار زهيدة لتنشيط الصناعة، وخلق مناخ استثمار جيد، خاصة في أوقات الصيف، حيث يزيد استهلاك الطاقة.
مع انتهاج أغلبهم مسارا غير قانوني في الحصول على الكهرباء، للتهرب من دفع الفواتير الكبيرة.
وادعت تلك التقارير أن هذا ضغط على الحكومة المركزية لاتخاذ قوانين حمائية ضد تلك الأنشطة للحد من استنزاف الطاقة الكهربية.
لكن هذا التوقع ينقصه قدر كبير من الاتساق مع وضع الصين.
حيث تمتلك الصين قدرة كهربية كبيرة جدا، بل وتعتبر الأكبر عالميا من حيث النمو والتطور، أفقيا ورأسيا.
ولا يؤثر البتة "تعدين" العملات المشفرة على وضع الطاقة الكهربية، ولا قدرة البلاد على توفير اللازم من الطاقة.
لكن هناك ادعاء آخر بأن ازدياد استهلاك الطاقة الكهربية أدي لارتفاع أسعار الفحم، وهو ما أثر سلبا على أسعار الخامات، ولوازم الصناعة الأخرى، مما زاد من الضغوط التضخمية على الصناعة والإنتاج.
وهذه وجهة نظر معتبرة، حيث يعتبر التضخم، أيا كانت مسبباته، أو نوعه أكبر المخاطر التي تحاول أي حكومة في العالم تجنبه!
* التخوف من نشاط المضاربة المتصاعد
لكن البيان أشار بشكل واضح إلى أن القرار يستهدف الحفاظ على أسواق الأسهم والسندات، والعملات، كما أنها ستحافظ على سعر صرف اليوان.
وهنا يكمن السر!
حيث أن خطر استهلاك الكهرباء لا يتسق مع وضع الطاقة في الصين.
وخطر رفع نسبة البواعث الكربونية أيضا ليس من تلك الأمور التي تعيرها دولة مثل الصين الاهتمام الذي يجعلها تحارب صناعة كاملة قد تدر مليارات الدولارات.
كما أن الصين بطبيعة بنيتها الاقتصادية، لا يمكن أن ترتفع فيها أسعار الموارد الطبيعية "الفحم" بناء على العرض والطلب!
لكن أكبر مشكلة يمكن أن تواجهها الصين هي خلل في النظام المالي، بما ينعكس سلبا على الاقتصاد، كيف؟
تزايد المضاربات في البتكوين استنزف حوالي 2 تريليون دولار عالميا.
لو أخذنا في الاعتبار أن هذا تم في فترة زمنية صغيرة جدا، إذا ما قورنت بباقي الأسواق التاريخية.
وهو ما ينذر باتساع كبير في المستقبل القريب، إذا ما استمرت بنفس الوتيرة، وهو ما يشير لاستنزاف المزيد من تريليونات الدولارات.
هذه الدولارات ليست سوى مدخرات المواطنين، واحتياطي العملة الصعبة في البنوك المركزية للدول، ومنها بنك الشعب الصيني "البنك المركزي".
وتعرض ذلك الاحتياطي للاستنزاف الممنهج يعرض العملة المحلية، اليوان للخطر.
وهذا بالضبط نفس تسلسل بيان اللجنة السابق!
للحفاظ على استقرار سعر صرف اليوان لابد من الحفاظ على احتياطي الدولار، وبالتالي يجب محاربة أي محاولات تستنزف ذلك الاحتياطي أو تؤثر فيه.
ومن هنا كان إعلان الحرب على البيتكوين، بكل أنشطتها، التعدين، الشركات العاملة فيها، المواقع، وحتى المجموعات الاجتماعية، كل ذلك أصبح في مرمى النيران الصينية.
إن استقرار سعر صرف العملة المحلية يتأثر باحتياطي العملة الدولية، الدولار.
ولعل أزمة الليرة التركية خير مثال لذلك.
وهو ما دعا تركيا أيضا لإعلان الحرب على هذه الأنشطة المضرة باستقرار العملة المحلية.
مع الفارق طبعا بين حجم احتياطي العملة الصعبة في البنك الصيني، نظيره التركي.
وهو ما سهل على الصين مواجهة الأمر دون تداعيات كبيرة، ويجعلها دوما في منطقة الأمان، رغم عنف التحركات!
* الذهب على الخط
من أكبر المستفيدين من تراجعات البتكوين هو الذهب.
فكلما تعرض البتكوين لتراجعات واهتزت الثقة، توجهت السيولة للذهب، مع توافر الثقة، وتاريخ طويل من العمل كملاذ آمن ضد التحوط وارتفاع الأسعار!
وهذه العلاقة قد تم إثباتها مرارا وتكرارا من قبل مؤسسات مالية كبيرة، منها JP Morgan ، خاصة في أسواق المال، بعيدا عن السوق الحقيقي خارج البورصة، الذي يشهد إقبالا كبيرا على شراء الذهب!
اقرأ:
هل يفعلها الذهب وينطلق من هذه النقطة ؟
* في النهاية..
ستظل البتكوين، ونظيرتها من العملات المشفرة التابعة علامة استفهام كبيرة في أسواق المال العالمية.
فلا هي مركزية يمكن متابعتها.
ولا هي مستقلة بالقدر الذي ينفي عنها شبهة تبعيتها لدولة يمكن أن تستخدمها كأداة استنزاف لرصيد الاحتياطي النقدي للدول الأخرى، في صورة مضاربات على "وهم" غير موجود
طاهر مرسي